"ومعرفة الآخر لا تكتمل ما لم يكنِ الشرود والصمت جزءً منها، ومع ذلك تنتابُ المرء رغبةٌ جامحةٌ ودائمة في الإصرار على عدم السماح للآخر بمعرفته، وهذا الإصرار ما هو إلا ذريعةٌ للنأي بالنفس عن ذاتها لخلق عزاءٍ أبدي" 

- راهيم حسّاوي - "ممرّ المشاة-ص١٩".


تضخّمتِ المدن بعد تلك العهود بشكل كبير. الشوارع والأرصفةُ، أبواب المحالِّ والاستراحات والكراسي والطاولات.. كل الأشياء والأغراض مرّتْ بأرقامها المتسلسلةِ على قارئ باركود الأمان والطمأنينة، المعلّقِ على دائرتك: تيييت، ثم تستطيع بعدها إدخال الغرض ضمن دائرتك الشفافة الحسّية، أكان الشيء شفرة حلاقة أم علبة سجائره.. هذا عن الأغراض والأدوات والأشياء، أما عن الكائنات الحية الباقية، فالموضوع سيتعقّد قليلاً. 

لدائرتكَ قدرة الملاك الحارس أثناء النوم، شبيهة الزوج/الزوجة، لولا أن الأخيرَين لا يفعلان غير الشخير في أحسن حال، إنما كرة الحماية تلك تمنع عنك الآفة التي عانى منها البشر منذ التكوين، وهي البرغش والهوام. تستيقظُ صباحاً، تُفَعّلُ كمواطنٍ صالحٍ متمدن نظام الأمان والطمأنينة الخاص بدائرتك، المحميّ بكلمة مرور تحددها أنت، فأي دخيل بعد ذلك يجعل الدائرة تعطي إنذاراً صوتياً في حال اقترابه، فللدائرة دور مكافحة الشغب، تُكَهرِبُ أي شخص يطحش عليك، وفي نُسَخِها القديمة، كانت كرة الأمان المحيطة بك تُخرِجُ هراوةً وعازلاً ضد الداني، وعلى هذا الأساس فلْتَقِس: 

لن تستطيع الاقتراب من أحد ما لم تستشعرِ الدائرةُ أماناً وسلامة في الآخر المقترب، والعكس منطبقٌ عليك.. 

تُخرِجُ لك شاشةً شفافةً تعرضُ عليك فيها المسارَ الأكثر أمناً للمرور في شارع.ٍ أو للتوجه إلى نقطةٍ معينةٍ، وتعرضُ لك قائمةً من أغانيكَ المفضّلةِ التي تستطيع تحميلها عبر ربط نفسك (دائرتك) بالإنترنت، فنصف خاصيات الدائرة الحامية في الحقيقة، تسقط عنها دون توفر الإنترنت، تقدر على تشغيلها عبر الوايفاي بالطبع، لكن حركتك بطبيعة الحال ستكون محدودة، يبلغ قطرها نفسَ ما يبلغه كلب "يكزدره" صاحبه بالحبل. 

يضافُ إلى ذلك أن كرة الحماية الشفافة الحسية هذه، في نُسَخِها المطَوّرةِ، مربوطةٌ بأنسجتك ومشاعرك، ففيها نظامٌ يتحكم بقدميك وركبتيك، لتسييركَ بالشكل الصحيح في الشارع، منعاً لأيّ احتكاكٍ مع كريّات حماية الآخرين، أو الآخرين دون كُرَيّات والذين هم نوع من الخطر المحدق، تجنباً للاصطدام والتكهرب ودفع غرامة سيرٍ بالتالي، ولقد سمعتُ شخصيّاً أنهم يعملون على تطوير قراءة الكرة لنظرةِ عينِ الآخر، ودراسة نواياه من خلالها، وتسييرك كذلك الأمر، وفقاً لذلك. 

أما عن الجانب الشعوريّ، فلقد طوّر القيّمون استجاباتٍ لونيةً تظهَرُ على الكرة، مستندة في تحليل بياناتها على شعورك أو شعور الآخر، فلكل حالةٍ شعوريّةٍ لونٌ محدد، على أساسها يصير التنقل والمسير. وعليه، فالمنتحر ينتحر، والكئيب يزداد اكتئاباً .. كلٌّ لمصيره وحيداً ضمن الآخرين. 

لا أحد يستطيع الكلام أو الصراخ، وفي حال موت الشخص ضمن الدائرة، تتحولُ إلى لون رمادي مصبحةً كفضلات الحيوانات، وتُرمى على جانب الطريقِ مؤقتاً؛ ومن الجدير ذكره، أن طبقات الدائرة تؤخذ على أساس انتماءات الفرد في شتى النواحي التي يختارها أو يولد عليها. الدائرة تعمل وحدها مبرمجةً في عالم كهذا، أساس عملها التباعد الاجتماعي والمسافة الآمنة، تُشَهّرُ بالآخر تحت ذريعتهما، ولا تلبث أن تشهّرَ بك وبشعورك. 

إنّها طرقٌ "مبتكرَة" يقال، بادرت بها المؤسسات والمقاهي والمطاعم.. لتطبيق التباعد بين الناس من أجل السلامة + تأمين الترفيه والشعورِ بالحياةِ اليوميةِ المتمدنة: دوائرُ تُرسَمُ على الأرض، تعليمات وكُتَيّباتُ تشغيل، دببةٌ قماشية ومانيكانات تجلس حول طاولتك..

لا أعرف حقاّ إن كان العالمُ سيذهب في اتجاه مشابهٍ يوماً، لكن الكلام الدائرَ دوماً والتهافتَ في المقابلِ على التطوّر بأنواعه، بالإضافةِ إلى إعطاء البشرية (إن صح اقترانُ المسعى ببشرية واعية متساندة) حلولاً لمواجهةِ مخاطر كبرى عامة (طبعاً فالخاصة التي بين البشر أنفسهم، يتفاوتُ الاهتمام بها، حتى وصول الموس إلى الرقبة) هذه الأشياء تُبَشرُ بواقعية شيء كهذا، لا بديستوبيته فحسب. كلُ عتبةٍ يضعها الإنسان، تكون، لاوعياً، عتبةً لأشياء أخرى، عتبةٌ لما هو خبيءٌ ودفين..

يا أخي إنها لا تقطع معي، قال يضعون مانيكان كيلا يجلس أحد معك مهدداً السلامة العامة وإلخ.. استيقظتُ لأجد البشرية على كاهلي! هل تتصورُ معي أن يأتي مدعوٌّ سمّيناهُ "م" يشتكي بطبعه عادةً من الوحدة، وألّا أحد يشعرُ به ويفهمه لأسباب لا تعنينا، ماذا سيفعل صديقنا "ميم" لو جلس ليبدأ نهاره على هدوء في المقهى، ووجد أنهم قد وضعوا مانيكان أمامه وواحدةً أخرى على يمينه؟ تشبه الباربي، جفونها ترفرف مع الهواء بجنون كأنها تحظى بأورغازم ما، هل يفضفض ميم لها؟ ألن يشعر ميم باغتراب غثيانيّ؟ هناك شيءٌ ما في الأمر يدفعنا لأن نكون مرضى عقلياً ونفسيّاً.. هذه مهزلة..سنشتري شيئاً حين نحتاجه، وحين أودّ شرب القهوة خصوصاً الصباحيةَ، فسأشربها وحدي وإن اقترب شيءٌ من طاولتي أو حاول، فسأطلق عليه النار.. عدا ذلك، سأجلس مع الأصدقاء في "رحلة" فحسب، أو معك أيها القارئ العزيز.. وَلَو! 

لم يفعل هذا التباعد غير أن أظهرَ تباعداتٍ حقيقية، وخوفاً على كل الصُعُد من أي آخر غريب (نحيي في هذه المناسبة، مهاجر بريسبان)، وأظهر هشاشةَ الروابط التي قامت في كثير منها على الأوانطة، وأظهر الكثير كاذبين..

يا من خرجت من وباء، الآن وبعد أن زال، هل خرجت من حدودك؟ هل يا ماذرفاكر؟ (يستطيع محرر هذا النص أن يستبدل ماذرفاكر بكلمة (بيتش) إن أراد، فقط لا غير) 

لم يتوقف الأمر هنا، فدائما على ذكي ما أن يدلي برؤيته الثمينة المخلِّصة في النهاية، فتجد عندنا، ولسخرية الصدفة والتتالي، والسببية حتى، من ينادي بإضافة فقاعة كبيرة تتضمن وتشمل الدوائر في منطقة، لفصلها عن أخرى، هكذا يغدو المكان من هذا المنظور، عبارةً عن فقاعات صابون على بوز قنينة "فيري" [لغير اللبناني، فيري هو سائل تنظيف، يصدر رغوة، يشبه الذكي خاصتنا، وأشخاصاً آخرين] يغدو مجموعةً من البالونات القابلة للطيران في الهباء، عند كل نسمه.

"فارماكون"، كلمة تعني السم والدواء، أي معنى منهما يحسمهُ الاستخدام والسياق.. ربما نحن جبناء، لا نحب الحلول الجذرية فيما يخص مصير الجميع، وقد نفضله لاحقاً، كما القائل (آخر الدواء الكي)، البتر.. لا، ما هو أكيد أن الإصبع المقطوع لا يُرمى، حاول وضعه في مكانه وهرول إلى المشفى، يقول أخصائيون.. (أعدت قراءة الجملة السابقة وبدوت حكيماً، آسف). وربما نحن شجعان، لأننا أمسكنا الإصبع المقطوع، ونعرف أين موضعه، وأنه فقدَ وظيفته لفترةٍ، لكنه سيعود إلى هذه اليد، إصبعاً مشيراً، باعصاً، وعاملاً و .. السلام. 


(خسارة كبيرة لمسلسل "black mirror" ألا تأخذ القسم الأول من النص، وتجعله إحدى حلقاتها، لا مؤاخذة يعني)

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button