نحيك الكلام بالحروف. حرفٌ يعانق حرفاً في صنع المعنى. نغلب الضباب بصلابة الكلمة. هذه المغامرة التي تُخرج الداخل وتُسمع الصوت الغائر بعيداً عن الغباش. تضعنا في مجابهة مع ذاتنا التي غرفت من حولها الصالح والطالح. تُسائلنا وتُحقق مع ذهننا في الفكرة. هل نعي ما نقول؟ هل نعني ما نخربشه بحبرنا؟ ما هو صوتنا الحق وسط هذا الضجيج؟
يعرّف ابن منظور الكتاب بأنّه "اسم لما كُتب مَجْمُوعاً؛ والكِتابُ مصدر؛ والكِتابةُ لِـمَنْ تكونُ له صِناعةً، مثل الصِّياغةِ والخِـياطةِ." هي حرفة السرد للآخَر الذي نتشابك معه ويُحاكينا في باطن وعينا. حوارنا بين الغياب والحضور، تتحاكى فيه أشباح الأحلام والماضي مع الحاضر وعنفه. نُشكّل الممكن رغم استحالته. نبني المكان للخيال رغم انعدام الضوء. هي المكان الأمثل للحُبّ، للقيا الارتواء بعد الظمأ. فلا حرامٌ ولا عيبٌ ولا استحالة: اكتب في مخيالك ما استطاعت به كلمتك. دع أسوار التعقّل والواقعية واليأس خلفك وتشابك مع قلمك لرؤية اليوتوبيا الضرورية. العالم الأمثل المعتوق من مفاهيم الوقت الحاضر والماضي، يُوصِل المُستقبل بالماضي بعيداً عن الواقع وأشباحه.
أُخرج من واقعك ومتاهاته واترك الحرف ورموزه يأخذك إلى مستقبلٍ مثاليٍّ ضروريٍ. والضرورة في الخيال لا تكمن في إمكانية حدوثه في الواقع ولا حقيقة أمره، إنما هو المساحة لخلق الممكن في عالمٍ مُتشائم. عالم يرى نفسه في الظلام بلا نورٍ بعده وفي الثبات بلا حركة.
فالوعي هو المكان الأوّل المُستهدف في الاستعباد والتقيّد. وهو المكان الضروري لاستحواذ الخيال في اللعب بعيداً عن الواقع وإمبراطورياته. فتأتي الكتابة لتسمح لك بأن تمازج الواقع بالحُلم. تدعك تطير بأحلامك المثالية في كلمتها، لأنها ترسم الممكن فيها. تُخبرك أن لا يأكل الظلام رأسك. وأنّ في هذا القلم ترياقاُ لسقم الهزيمة. تفرش لك إمكانية الَنفَس وخلق المكان وسط ضيق هذه الأرض. فعندما نرفع من وعينا فإنّ ذلك ليس مجرّد انتفاع بالعلم بعد الجهل. إنما هو إعادة تشكيل علاقتنا مع العالم. يصبح الوعي الذي نُسائله وعياً لا يُطبّع مع واقعه. يخلق حالة جديدة من تملّك الصراع وما نتصارع معه.1 يستردُّ الوجود المسلوب. تُمسك اللغة بيدك في اغترابك بين الصورة والحقيقة وتدع الحرف يصيغك مرّة أخرى. تكرُّ مسبحة الوجود حبّة تلو حبة، لتُعيد تفقّدها وتشكيلها بلعبتك مع الكلام. هذه الحروف التي تُقيّد وتُحرّر، تغرف المعنى منها بعيداً عن طوب الموروث المُتآكل. تضعك اللغة في مجابهة مع نفسك والمعاني المُقرَنة بالكلمات. يتفكّك المعنى بالتجربة لتأتي الكتابة كعمرانٍ جديدٍ لها. هذه الولادة الجديدة المرتجاة لُقيا النفْس بفحواها المُبدعة القادرة على النظر والنفَس. تأتي الحرُيّة مع الجلد الجديد لتُقرّبك ممّا أوتيت به كي تشدّ الواقع لما تراه أعدل وأمكن. تخلق أرضاً جديدةً تُمكّنك من إحضار المعنى وتجديده. تفتح آفاق الماضي والحاضر لتُعيد التفكّر بما لُقّنت وما تراه أمكن لنفسك في أيامك القادمة. هذه المساحة البيضاء مع الصفحات الساكنة، تترك لصوتك فسحةً للغناء والبكاء. تُتيح المكان للتعرّي مع العاطفة والعقل.
هذا المسكن السمحُ مع الممازجة والتزاوج. البعيد عن التصنيف والصور الثابتة. الأليف مع الوجود في عوالم التضاد والتنافر. القاصي من المنطق وقوانين الفيزياء والوجود.
كُن التمازج الذي ترغب به، ولا تأبه بقوانين الواقع. ضُمّ جميع الألوان والعوالم الذي ترغب واخلع قناع التنضّج المُمِلّ الفارغ. أنت الطفل الضروريُّ في هذه اللعبة. والبطل في رحلة الدخول إلى نفسك كما أنت، بكافة تناقضاتك لتُخرج الكلمة الأصيلة المدفونة. لتكشف فراغ وحدانية غربتك، وأنّ في هذا التعرّي ما يجمعك مع آخرين مماثلين لك. تلك الرحلة إلى الداخل التي تجمعك مع كثيرٍين من حولك من دون أن تدري. "إنّك تظنُّ أنّ في ألمك ما لا يُطاق ولم يُختبر، ثم تقرأ. هي الكتب التي علّمتني أنّ أكثر الأشياء التي آلمتني هي أكثر الأشياء التي تربطني بالناس التي كانت أحياء..."2 تربطك الكلمة بالآخر حين تغوص في نفسك. تكشف لك ترابط الألم والفرح والتجربة بيننا. تُسرد القصص لتُجدّد لنا المعاني والرؤى، تُعطينا من رفاهة العقل ما لا يُشترى. تحشد لنا الجموع من الشعوب والقبائل لنتعارف. تُحضرنا إلى أمكنة وأزمنة نتشارك معها الجمال والقباحة ونُجدّد فيها روح التجربة المعاشة.
الكلمة هي مفتاح تطبيب الألم للتسامح معه. كي نراه بعيداً عن القلق والشلّل. الكشف المُحتّم في عالمٍ يصنع الاغتراب في كلِّ ما أمكن، هو ألاّ نغترب عن العناء والإعياء والتعب، بل أن نعرفهم بوجوههم الحقّة. أن نواجههم مع خليلٍ يداوينا في تقلّباتنا ويرافقنا كيفما كنّا. يُوثّق فينا تاريخنا ومسارنا الزمنيّ. نخلق أرشيف وعينا وفحواه مع تعابيره. نُركّب لغتنا عبر الإفصاح عنها ومعرفة ملامحها. نُدرك جذور كلماتنا وأصولها. نكشِفُ عمّن لقننا ما لم نُدرك أنّنا لُقّناه، فتظهر في تعابيرنا وصياغاتها. تُغنينا عن ثقل المشاركة مع البشر وتُتيح لنا الأمان بعيداً عن خجل الكَشف. نُخرج الاستحياء والاحتشام والتعذّر. هي الخلوة الحتمية وسط ضجيج الفراغ والكثرة غير المجدية. استفاضة الكلام والمعلومات والغياب. تُخمة الصور والرقص والاستهلاك. التنابز بين الوجود والعدم. تُعيدك الكلمة إلى المواجهة والحضور مع السكون. الوقوف وسط عالم تعب من الحركة. النظر النقي في ملاقاة الحقيقة أو السعي إليها. نختلي في غار اللغة انتظاراً لوحيٍّ لا بدّ من نزوله.
1 مارك فيشر في كتابه "الرغبة ما بعد الرأسمالية".
2جيمس بالدوين، مقابلة عام 1963.
الصورة: أميمة دجاني
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة