الحاجة أو الحائجة في المعجم هي ما يفتقر الإنسان إليه ويطلبه. وجمع الحاجة هي الحوائج. وحين يُحوّجنا أحدهم، يجعلنا مفتَقَراً إليه. نخلق المسافة لخلق الحاجة، وبها نبدأ حوار النفس مع الغياب والصور المُثلى عن أنفسنا وعوالمها. تأتي الحاجة كطيف دليل عمّا في دواخلنا. صورةٌ تتكلم لنا كي نرى. حوارٌ عن رغبة وتلبيةٌ لها. وتأتي صورة الآلة كطيف أمان وإبداع لذلك الاحتياج. إحتمال الخيال الأكبر الدائم البعيد عن كلِّ مُتغيّر. الحيّ الذي لا يغيب ولا يموت.
نأتي لتلمّس الجسد الذي تشابك مع الآلة. تشابك اللسان والخيال معاً. تلك الحاجة الكبرى لتلبية الحاجة. يأتي ذلك "الذكاء" ليخبرك أنك أنت الإله، أنت الآمر الناهي والحاصل على كلّ ما تتخيل. يخبرنا هذا العالم الاستهلاكي السريع، أننا سنلبّي كل الحاجات، وأنّ كل أنواع الجوع ستُشفى. نخلق اللغة لصياغة دعائنا لما نرغب أن يتشكل. فهو حوار العبد للسيّد. فتتشكل مخلوقات تتشابه جمالياتها بمثالياتٍ نتخيّلها. فيخلق فينا شعور القوّة المتينة التي يُغذّيها كبرياؤنا. ليس عليك سوى أن تكمل الركض اللامتناهي مع الآلة. لكنّنا ننسى أهمية الجوع والاشتياق، أهميّة أن لا تُلبى كلُّ الحاجات. لأنها وببساطة، لن تُلبى. وفي تلك المساحة بين الرغبة والتلبية الكثير من الحوار اللامتناهي مع الخيال البعيد عن الطمع، غير المربوط بالقوة الاستهلاكية.
ربما علينا إعادة التفكير بأنسنتنا. أصبحنا في عوالم ما بعد-الإنسان. ما بعد رؤية الكون ضمن رؤية الإنسان. نحن في أكوانٍ تتشكل بين الحيوان والبشر والنبات والآلات والمال. عوالم الأفضية الواسعة، والكواكب غير المعلومة. ننظر إلى هذا المشاع الكبير خارج أنفسنا وبشريتها. نحن لسنا آلهة ولم يُكتب لنا الخلود. وتلك الرؤية المنقوصة التي تضع الإنسان في مركز فكرها، رؤية تجلب الدمار الحتمي لجنون عظمة الرجل الأبيض. أصبحنا في عوالم الـ cyborg، ذلك الكائن المتشابك بين إنسانيته وآليته. يخلق رؤية ما بعد الأقطاب ليمازج خيالًا يقارب الحيوان بالآلة ويقبل تناقضات وجودنا وتعقيداته. يرفض الحدود الواضحة بين الشيء وغيره، ويقبل أن يكشف ويكتشف الرمادي واحتمالاته. ما هو هذا العالم الذي نتملّك به قدرتنا على اكتشاف الإبداع مع حوار الآلة، حوارٍ بعيدِ عن التسلّط والربح؟ كيف نستخدم هذا الفضاء في خلق احتمالات عوالم تحرّرنا ونُحرّرها؟
خلقنا واقعًا يربط الآلات بالبشر. لست من هواة الرواية الديستوبية عن تملّك الآلات لعقولنا، لأنني أرى كثير من بشريتنا في هذه الآلة. فالعدو الأكبر ليس الوسيلة إنما الغاية. غاية تلك الآلات وذلك "الذكاء". لماذا نستخدمه؟ ولأيّ هدف؟ وماذا يُستخدم في حوارنا معه؟ اعتدنا أن نرى تلك الحدود الواضحة بين أنفسنا وما نصنع. لكننا الآن في واقع ما بعد الأقطاب، تخالطت الخوارزميات بالعلوم مع الخيال. صنعنا عقولًا ممزوجة بتلك الرحلة الرقمية، وتتجلّى رغبتنا الاستيطانية فيها. فالعدو ليست الخوارزمية نفسها، إنما من يصنعها. وفي عالمنا المنقاد بالمال والربح، تصبح الآلة شريكة في هذا الطمع الإنساني. وتصبح الآلة بجنون عظمة الإنسان الصانع لها. كما تصبح تفاعلاتنا مع مفاهيم الإبداع وصناعته، محدودةً بخوارزمية مربوطة ببياناتٍ هرمية تعكس هرميات عالمنا المادي. فتصبح الآلة نفسها مساوية في عنصريتها وجشعها وذكوريتها مع تساوي مؤسسات الواقع، بل قد تصبح أكثر فعالية في ذلك العنف.
لكنّ في هذه الهرميات الرقمية، ما يُحرّرنا منها لأنها تجهلنا. لن تستطيع تلك الخوارزميات جاهلة اللغة العربية وتكوينها أن تستعبد حروفها وتطوّعها في مسار الربح والتسلّط. لأنها وببساطة، تجهلها وتجهل تاريخ تكوينها وتطورّه. فيصبح مسار جهل الآلة بالشعوب السمراء ولغاتها، مسار تحرّر لتملّك مساحة في ذلك الفضاء الرقمي. ويصبح ابتعاد العوالم الرقمية في البلاد المنكوبة عن مسارات التسويق الإستهلاكية، مسارًا لخلق ابداعٍ غير معنيّ بمفاهيم الربح المالي وتطويعه. قد يبدو في ذلك المسار بعضاً من التفاؤل الساذج، لكن الأمل المربوط بالتشاؤم ضروري أيضاً. أن نخاف الآلة ونقارب تفاصيلها. أن لا نستبعد مساحةً حُرّةً في رحلة "الذكاء" الآلي، مع توقّينا عنفها علينا. لنا الحق في أن نحلم باحتمالات الإبداع الذي تدعّيه موجة الذكاء الاصطناعي، لا لشيءٍ سوى لأننا في عالمٍ يتغذّى من يأسنا في احتمال التغيير. لنا الحق أن نحلم بعوالم أخرى تسمح لنا أن نُبدع ونتخيّل. لنعيد حركة الحوار مع الحاجة بدلاً من إسكاتها.
الصورة: من فيلم Ghost in the Shell (1995)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة