"سبحانك كلّ الأشياء رضيت سوى الذُّل
وأن يوضع قلبي في قفص في بيتِ السُلطانْ
وَقَنِعْتُ يَكونُ نَصيبي في الدُنيا كنصيبِ الطير
ولكنْ سُبحانَك حتى الطيرُ لها أوطانْ
وتَعوْدُ إليها وأنا ما زِلتُ أَطير
فهذا الوطن الممتد من البحرِ إلى البحر
سُجُوْنٌ مُتَلاصِقَة
سَجّانٌ يُمْسِكُ سَجّان"
- مظفّر النواب
تجول العتمة بالعيون مع الدمع. تدوخ الرؤوس وتتغبّش الرؤية. تهتزّ الأرض بنا حتى تترنّح أجسادها وترتطم ببعضها. تأتي موجةٌ كبرى لتبتلعنا. يسكن فؤادنا الرعب الثقيل. هذا الذعر الوجوديّ والقلق في الرأس. يأتي الجبروت مع ويله ليزيدك غرقاً. يحرمك الأمل والمستقبل قبل الحاضر. كيف النجاة واللحظات تُسرق في فجرها قبل شروقها؟ يُكبّر الآذان إعلاناً ليوم قيامةٍ لا ينتهي، تُسرق الشمس فتغيب في مشرقها.
إذا أردنا تعريف الحياة، أو بعضًا منها، فالحُبّ والأمل والنور جزءٌ منها. والحُبّ في مضماره وجود الحبيب. والوجود يحتوي الجسد والعقل والروح. أن ألمِس وأن أُلمس، وأن أحضِن أو أُحضن. والأمر ليس محض رومنسيةٍ كاذبة، إنما هو محكومٌ بالمجتمع والدولة. الرباط القائم بين المال والاعتياش والمكان والشخص. وحين يتلاشى ذاك الرباط، يتلاشى معه الحُب. حين تُرى أنك جسدٌ من الدواب، تأكل العلف لتمشي مع القطيع. يأتي السارق إلى لُبِّ وجودك.
يُظنّ أنّ السارق في برجه العاجيّ، لكنّه أقرب مما أظن ومما هو ظانّ. يأتي إلى حبل الوريد ويسرق معه المعنى. يحوّلنا إلى بُخار نرتطم مع أرواحنا في الأمواج. يرمينا في جوف البحر بلا حسيبٍ أو رقيب. وما من موسى يرمي بعصاه فتنشقّ البحار لنجدة إخوتنا. تبتلعهم الأمواج في بطن الحوت. تُسرق أرواح إخوتنا، ويُسلب معها اللون من عيوننا والحرف من كلامنا. نحن، أنا وإخوتي، جسدٌ واحدٌ نتداعى على بعضنا بالحُبّ والدمع. نُداوي آلامنا بالعطف والحُضن. ثم يأتي أبانا مع شحوبه الأكبر ليسرق كل أنواع الشعور منّا. يأتي مع اغترابه عن نفسه ليزيدنا في وحشتنا. هو الغريب عن العاطفة والكلام، يتوحّش مع نفسه ليسرق حياتنا معه. بأيِّ ذنبٍ يُنهب المعنى والروح من الأشياء؟ لمَاذا نحمل وزر اغتراب آبائنا عن أنفسهم؟
فراعنتنا ساكنون في جوفنا، في قلوبنا الخاوية مع رحيل الأحباء. فهي سرقة جارية مع كلّ نفَسٍ فيه الألم، مع كلّ شوقٍ بعيد لا يُدمل بالعالم الافتراضي. يُهجَّر أحبّاؤنا إلى هواتفنا ويُتناقل الحُبّ عبر شاشة. تتبخّر العاطفة مع هذا الافتراض البعيد. تبرد جلودنا مع غياب الحضن المحب. ننسى التلامس والقُبل. إنه التقمّص ما بعد الجوع، ما بين الأرواح والمادة. يأتي بيده إليك في غرفتك، في صباحاتك التي تندثر أسباب الحياة معك. يأتي ليزيدك لطماً في رأسك وثقلاً في فراشك كي تغيب فيها. ثمّ يحضُرُ مساءً مع السكون الخفيف في المكان الفارغ من كلّ مؤنسات الحُبّ ليُكمل فعلته ويختم مسرح الجريمة. يُثكّل أمهاتنا ويُيتّم أبناءنا و تنفطر قلوبنا. يُختلس الحُبّ والصداقة والعائلة. نحن نُنهب في باطن أفئدتنا.
في هذا الشحوب جُرمٌ موصوف. أن تُختلس العاطفة ونتحوّل إلى طين شاغر. يخرج الخواء من بين الصلب والترائب دليلاً على جُرمهم. يحول وجودنا عن الروح. نحن الجماد الهزيل عن الحياة، نعتاش وحدنا بعيدًا عن أشباهنا. نتفرّق قسرًا، نحن المُبعدون عن ديارنا ونحن فيه. نُجوّع قلبًا وقالبًا. كيف نُكمل الحياة مع هذا الخواء؟ كيف العيش فُرادى مع هذا القلب الفارغ؟ أن يُسرق القُرب والتآزر، أن تُزرع البرودة والجفاء. هذا الجُرم بعينه.
يُظنّ أن الحُبّ ترفٌ بعد هذا الجوع الكبير. كأننا لا نملك بذخ التعبير والعاطفة. لكنّ هذه الصلابة هي موتٌ مُبطّن. كما يقول ابن عربي: "يأتي باللين ما يأتي بالقهر، ولا يأتي بالقهر ما يأتي باللين." هذه الشدّة هي فعل سرقة السلطان الحياة منّا. وهي البُعدُ المفروض لإبقاء ثروته معه، فهو المحكوم بالطمع والكراهية. ولا تحرير ولا تحرّر ولا حياة مع هذه النرجسية. هذا الحُبّ هو الضرورة والنجاة بحدّ ذاتها وهو التعارك على تملّك الوجود دون نهبه. هذا التشريح القاتل لقلوبنا وهذا العصيان في إبقاء رغبتنا في الحياة والمعنى. نُبقي الحُبّ في أفئدتنا دون حرقنا للودّ، نزرع الكلمة الطيّبة ونُديم الوصال الجميل لخلق أسبابٍ للخروج من أسرّتنا. نخرج من ذكورة الجبروت إلى أنوثة العطف. ندع أمواج الحزن والفرح تأخذنا دون إدّعاء صلابةٍ هزيلة. نسمع قلوبنا وما تحويها ونُعطي من الودّ ما استطعنا لغيرنا.
هذا الجمعُ لن يحيا إلّا بالعطف، ولو أننا نحيّا في عالمٍ يظنّ أنّ العطف والشعور خارج "الواقع". وأنّنا نحتاج "العقل" لتيسير أمور معيشتنا. لكنّ هذا العقل يُرينا أنه محدود وعنيف في كثيرٍ من الأحيان، ولن يرى ما يراه القلب. ولن يُوصَلَ بما يُوصَلُ به الشعور. يَظُنُّ السارق أنه "الفهلويُّ" في عبادته للمادّة، لكنّه يُبيد حاضرنا ومحيانا في "عقلانيته". يُخبرنا "الواقع" أننا نحتاج الخيال حاجتنا للهواء. نخلق أماكن لنختلق الحُبّ ولو أنه من ضرب الخيال. نصنع أسبابًا للاستمرار والاستيقاظ.
نداوي جراحنا ببعضنا، نحن الذين نبحث عن أسباب للحياة. نكشف آلامنا لخلق مكانٍ للتآزر وللخروج من وحدتنا، لأنّه، وكما يقول الحديث النبوي: "الأرواح جنودٌ مُجنّدة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف." نحارب سارقينا بإبقاء أفئدتنا الحيّة. نُعيد الألوان لأعين أخوتنا، نردّ لهم الروح في طيب وجودنا وحُبّنا. نُذكّرهم بوصل الدم بيننا. نحن الحياة في وجه الموت. نجابه سارقينا بسعادتنا ومحايانا. لن تنهبوا الروح منّا، نحن أحياءٌ عند ربنا نُرزق من تآزرنا في النَفَس والحب.
الصورة: نورا السوما
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة