تربط العيون المُشاهِدَ بالمشهد، يأخذ الراوي تفاصيل حكايةٍ ويخلق منها صور إستعارةٍ تشابه روحه ونواياه. تذهب الحكاية إلى أعيننا وهي تفكّك المعنى والمغزى. من يروي الحكاية؟ وماذا يبتغي من تلك الرواية؟ تحوّل صور الإعلام قصصنا إلى رواياتٍ وصورٍ لا تلامس الحقيقة. نحن مُجرّد إكسسوارتٍ وخلّفياتٍ لعالم أفلامٍ لا يعرف الفارق بين الحقيقة والخيال. يُجرّدنا من أرواحنا وآلامنا، حتى تصبح مشاهد جثثنا مجرّد story نزيحها بين صور الأكل والأفراح. نعيش اكتظاظ الصور حتى تفقد أعيننا الشعور والتعاطف. نُرهق بمسافات الصورة حتى تغيب قوّة الحقيقة وقوّة النفس القادرة على لمس الواقع وتغييره. يضيع الأساس مع تعدّد المشاهد. نشاهد طلّاب أمريكا يستنجدون نُصرة لغزة، فتأخذنا أمواج أخبار أميركا بعيداً عن غزّة. تضيع العيون بين الواقع والمشهد. ويضيع الدم الذي يُزهق بين رقميات العوالم التي نعيشها. نعود إلى موقعنا في هذه العوالم، وإلى ماذا نبتغي من تلك الطرق؟
تأتي أنظمتنا مع مؤثريها لغسيل ذنبها في تلك المذبحة. يأتي "المؤثّر" كأداةٍ لفرعونه الذي أمره بتجميل صورته. ذلك العالم الذي يعبد الصور دون الاكتراث بالنفس البشرية. فيأخذ الفرعون إنزالاته الجويّة مع مظلاته الكبيرة رغبةً بغسل ذنبٍ أمام أعين العالم، دون الاكتراث بأعين غزّة. يلعب الفرعون لعبة "المؤثر"، وكأنه بعيدٌ عن عوالم خلق المشهد. هو دُميةٌ بمسرحيةٍ يحكمها من هو أكبر منه. تتكرّر الإذلالات الجويّة ويختلط مشهدها مع الدم الفائض. تتوضحّ عوالم الأسياد والعبيد.
تخبرنا الإمبراطورية بحقيقتها. تنزع قناع الكذب ويقف كلٌّ بمكانه الحق، وبمكانه الذي يبتغيه لنفسه. تُحدَّدُ الصور والأعين وترتيبها بالوضوح الصريح. ويُقرّر كلُ لاعب رغبته في المعنى والمادة بين تلك المشاهد. تعود الفاشيّة بوضوحها المختبئ بين التورايخ والحروب السابقة. يأتي تاريخ الماضي الحاضر الموجود. فالإمبراطورية لم تعلن توبتها ولم يُعلن الضحايا غفرانهم. بل ضاعت التوبة بين الكذب والمال. تسقط صور الذنب الثقيل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. تلك الصور التي لا ترى سوى نفسها البيضاء المتفوقّة. تغيب مرآة الاستبطان ويغيب معها التعاطف الإنساني ورؤية ألم الآخر، يصبح الوجود الأبيض مربوطاً بضرورة ألم الجسد الأسمر. يرفض الأبيض مراراً وتكراراً جنون عظمته واستبداده حتى يعمى عن الدماء الملصوقة بيديه.
يخبرنا الدكتور غسان أبو ستة عن أحد أيامه في حرب غزة في 2014، حيث وصل إلى المستشفى طفلٌ مهمشّم القدم وبحاجة إلى عملية ترميم. وعندما سأله عن اسمه فأجابه "فارس عودة." فسأله عمّا إذا كان يعرف فارس عودة، أيقونة الانتفاضة الثانية الذي استشهد برصاص قنّاص إسرائيلي بعد أن رمى دبابة إسرائيلية بحجر. فأجابه مع ابتسامة٬ "أنا فارس عودة". وعند انتهاء العملية، ذهب الدكتور غسان إلى والد الطفل وسأله عن اسم ابنه فقال له أنه شقيق فارس عودة وأنه قرّر تسمية ابنه بفارس حين استشهد شقيقه. ثم عاد إلى الولد وأخبره أنه والده روى له أن عمّه هو الشهيد فارس عودة. لكنّ الولد ابتسم وردّد مرّةً أخرى: "لكنّني أنا أيضاً فارس عودة."
يعلّمنا فارس (ابن الأخ) أن الأجيال تتوارث وأن الدم يجري ما دام هناك نفسٌ حيّ. يخبر فارس الدكتور أنه أيضاً، فارس عودة. وأنه أيضاً حيٌّ يُرزق وله جسده الذي يفخر بوجوده. فارس الطفل، لا تعنيه "الأيقنة"، على قدر قوّتها، إنما يعنيه الحاضر المعاش. ولا يعنيه تفاخر الأجداد والآباء، على قدر ثرائه. يعلّمنا فارس أنّ "ليس الفتى من قال كان أبي، إنّما الفتى من قال ها أنا ذا". يأتينا عجزنا الماضوي المُشلّ، والمستقبل الأعجز الطويل. نضع كليهما على الجوانب، لنستخدم أيدينا الحاضرة. لا نتجاهل ترابط الأزمنة والدم، لكن نُعيد إلى أنفسنا استحقاق الحلم والعمل.
تصول الأيقنة لتحويل كل الوقائع إلى صور، تصبح الصورة ختم براءةٍ لأنظمة سفكت من الدماء في سلاحها ومالها. تذكرني غزّة ببيروت في بعضٍ من مشاهدها. بيروت، بحسب ايتل عدنان، "ليست مختبراً للمتحاربين في المدن فقط، بل هي مختبر رخيص للأفلام السينمائية. استوديوات هوليوود، ومدينة الأفلام في إيطاليا، وفي طوكيو… لا تستطيع أن تنافس واقعياً صورة جسد إنسان عربي بملابسه الدّاخلية، محمّلاً على ظهر سيّارة أجرة يكتظّ حوله النّاس، في طريقه إلى برّاد الموتى، صار هذا المشهد البعيد قريباً، وليس في حاجة إلى رثاء. الموظفون في قنوات الأخبار يعلمون أنّهم يثيرون بحدّة حسد أكبر مخرجي الأفلام السينمائية لأنّهم مؤلفون وممثلون في الوقت نفسه في المسرحيّات المستمرّة على مساحة هذا العالم." تذكر إيتل فيلم المخرج الألماني فولكر شلوندورف "دي فالشونغ Die Fälschung" الذي صُوّر في عزّ الحرب الأهلية في الثمانينات في بيروت. لكنّ الفيلم لم يكن عن بيروت ولا عن الحرب الأهلية. أتى شلوندورف لاستخدام بيروت "من أجل الخلفية، من أجل الديكور، الجنون والفوضى والنّيران، من أجل الحزن الذي لا يستطيع أيّ ممثّل أن يؤدّيه، من أجل إرادة شعبٍ للحياة، ومن أجل البحر الحارّ والأطفال الفقراء الذين يصبحون أجمل كلّما ازدادوا فقراً."
وتكمل إيتل في حوارٍ مع صديقتها ليلى التي قالت لها: "لكنّ شلوندورف فعل شيئاً أفضل، استأجر الحقيقة، وجد شبّاناً من الجهات المتحاربة وطلب إليهم أن يجهّزوا معركة، فقط من أجل أغراض الفيلم الذي يصوّره." وقد اعطى قادة الميليشيات المختلفة في حينها أمراً بإيقاف "المعركة الحقيقية" كي يفسحوا المجال لإعادة تمثيل المشهد للفيلم الألماني.
تخبرنا إيتل أنّ "داخل كلّ مُخرج سينمائي شيء من رئيس موظفين، وداخل كلّ رجل أجنبي غربيّ إذا صادف وكان على أرضٍ عربيّة شيءٌ من السّلطة، وشيء من الممثل داخل كلّ رجل يشترك في معركة، وهذا ما يفسر موافقة قادة الميليشيات الّلبنانية على طلب المخرج الألماني الذي حوّل ساحة معركةٍ ساخنة إلى "مسرح عمليات".." حتى أنّ شلوندورف طلب أن يصنعوا له من عجينة الورق بعضاً من الجثث. إلّا أن حسن، أحد الممثلين قالوا له أن تلك الجثث ليست جيدة الصنع. حسن، صبّيٌ في الثالثة عشرة من العمر والذي قد عاين مجزرة الكرنتينا في طفولته أخبر شلوندورف أنه بإمكانه أن يزوّده بجثث حقيقية. وبعد ذلك بيومين، يدخل حسن إلى فندق الكارلتون حيث يمكث شلوندورف مع كيسٍ ضخمٍ قد أفرغ محتوياتها وصفّها على الأرض. خمسون جمجمة وتلّة من العظام.
يسأله: "كم تريد؟"
يجيب الصبيّ: "ثمانمئة ليرة."
"هذا كثير، لا تستحق أكثر من خمسمائة ليرة، ولا فلس أكثر من ذلك"، يجيب شلوندورف.
"أوكي." يقول الصبي بعد سكوتٍ طويل.
الصورة: رسم "الزيتونة" لـ بيان أبو نحلة
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة