أمسك جسدي وأتلمّسه، مخلوقةٌ من لحمٍ ودم. لكن ما هو الجسد؟ وما هو الوجود في غياب الجسد؟ كيف نواجه الحياة بأجسادٍ ليست لنا؟ كيف نمشي في هذه الأرض حاملين معنا طفولتنا وحكايات الخوف والترهيب من أن ننظر إلى أنفسنا؟ كيف نفقه أنفسنا ونحن غرباء عن أجسادنا؟ وأيّ اغترابٍ نعيش عندما تُستبعد أجسادنا دون إدراكنا؟
أركض ركضاً سريعاً، أُفرغ القلق من جسدي. لكن جسمي لن يصمت، تتحرّك عضلات فخذي، تتشنّج معدتي. أمدّ يدي لإحضار المياه لأرتوي، فتتشنّج يداي. لربما أرغب بالتحرّك لإعادة معرفة جسدي وتملّكه، لئلا اجعله دائم الاستعباد لدوّامة العمل والكفاح. لربما نسيت ضخ الدمّ في الجسد.
ألهث، يخرج الهواء من فمي. ترجوني قدماي أن أتوقّف. اعتدت الكسل والفتور، أعيد ضخّ الحياة في هذا الجسد.
يأتي الموت، أرى الجسد السمين يصير نحيلًا فاترًا أصفر. أرى "اللحم" و"الدم" وأرى الحياة التي دارت بين تلك الأرجل واليدين توقّفت. كم شهد هذا الجسد وكم كافح وكم تعب. وكأنّه أدّى واجبه، ثم تحلّل.
ذلك الجسد ليس بخالد، لكنّه جميل وعجيب. والعُجب الأكبر في تبدّل أحواله وتكوينه، في جبروته ووهنه. العُجب في تبدل الزمن وتسليم الجسد لذلك التبدّل. العُجب في الانتفاء بعد المحيا المتكبّر القابض على الزمان. الخلود لله وليس للحمنا ودمنا. أرى الجشع يصبح نحيلًا، والدهون في الخد والوجه والـ "كرش" ذائبة.
أرى الولع في الطعام يخبو والشهوة تضمحل. أرى العيون الذائبة الراحلة. ولربما نحن خالدون من دون هذا الجسد، نذهب من دار الدنيا إلى دارة الله. فهل جسدنا لنا؟ ومن نحن حقاً؟
أسترجع المراهقة. أسترجع قول المعلّمة في الصف هامسةً عن "غشاء البكارة" وأن في إمكاننا "ترميمه" في حال اغتُصِبنا. وأنه ليس نهاية العالم. لأنه في النهاية "مش غلطة البنت، بس لازم تكون حريصة ع نفسها." سيكون لدينا المقدرة على التزاوج والتوالد، لكنْ في حال... "إذا لقيتِ حدا بيقبّل" بذلك الجسد المُنتهك.
ثم أجلس مع صديقتي خارج الصف. لا تتفوّه بكلمة. صامتة. "إنت منيحة؟". "خلص شو بدك، إنسي." أُصرُّ على السؤال ولا تجيب.
حصلت على الإجابة بعد سنين طويلة. لكنها بقيت صامتة. لأنو "مش غلطتها."
ولأنها كانت حريصة على نفسها. مُجرّد طفلةٍ تلعب مع صديقاتها في مكانٍ يُظنُّ أنه آمن.
وكيف تنظر إلى نفسها بعد أن قيل لها أنه يمكن أن "تُرّمم" نفسها؟
وبعد أن قيل لها "اذا لقيت حدا يقبل فيها" تتزوج.
كيف ننظر إلى أنفسنا كنساء حين يُقال لنا إنّ أجسادنا يجب أن تكون "جاهزة" للزواج؟
وكأنّنا وجبات طعام تُطهى قبل أن تُستهلك! لسنا بشر من لحم ودم.
نحن أشياء يجب أن تُرّمم كرمال "يقبل فينا شي حدا."
أسترجع الترهيب والتسلّط. دوام المراقبة في ما ألبس وأنطق وأتحرّك، وإن كنت سأنجح امتحان العفاف والإيمان والخيّرية. أسترجع نفسي الصغرى التي سعت دون جدوى للنجاح في ذلك الامتحان المضني اللامتناهي.
تدخل صديقتي غير مرتدية هندام المدرسة. تقول المعلّمة: "ح تحترقي بجهنّم إذا لبستي jeans." نضحك جميعاً ساخرين. مضحكة تلك الجملة. جداً.
"ح تتعلّقوا من شعراتكن بجهّنم اذا ما لبستو حجاب!" نستهجن. وما هي صورة الإله وجهنم التي أرادوه لنا؟
وكيف ننظر إلى أفخاذنا وشعرنا وجسدنا بعد أن قيل لنا أن الذنب يكمن فيه، في وجوده البحت.
وكيف نتصالح مع لحمنا ودمنا عندما يضعوننا بين اختيار الله أو أجسادنا!
وهل نختار اللاوجود والاختفاء للتصالح مع الله والدين والأخلاق؟
أسترجع الغضب. "النص بقول هيك، أنا ما خصني." وهل حياتنا بخسة الثمن لكي يكون النص أثمن منها؟ لكي يكون انتفاء وجودنا أهون من أن نُعيد النظر في النص والهيكل؟ وهل النص غريبٌ عن واقع؟ نسقطه صنماً جامداً دون رؤية الألم واللحم والدم؟ وهل نحن بعميان لأن نُطبّع مع الواقع وعنفه؟
نفتقد التملّك، تملّكنا لعقلنا وجسدنا. نُساق فكراً وحركةً ورؤيةً. وكيف تتبدّل الأحوال بطوب الجسد؟ كيف نرفع الظلم ونُعيد الحياة في وعيٍ صنميٍّ مُغترب؟
يقول دولوز أننا أجساد بلا أعضاء، بلا حياة. لكن أيّ أعضاء تلك في غياب الجسد بحد ذاته؟ أيُّ تحويرٍ للّغة إذا سُلبت منك قبل أن تصيغها! كيف نألف الوجود في غيابه؟
أسترجع القيامة، اليوم الأشعث. يهتزُّ جسدي. وجهي تحديداً، خدّاي الكبيران. أرى الموت للمحة. يدخل ذهني إلى خريطة العالم. يُذكّرني: في أيّ بلادٍ تظنين نفسك؟
تقوم الواقعة. يطير جسدي إلى آخر الغرفة.
يُذكّرني: إنّك من لحمٍ ودم. وموتك هامشي، رقمٌ واحدٌ بين تلك الشعوب التي اعتادت الموت - البطيء والسريع.
يُذّكرني جسدي في انتفائي في محياي قبل مماتي.
أرجع إلى قلمي، ملجأي الثمين. ألهو به بعيداً عن كل الهياكل. أصيغ نفسي كما أحبها، دون تأطير. أُعيد رواية نفسي لنفسي. أواعد الكلمة والحرف والجملة. أداوي جسدي في رحلته المُضنية.
مصدر الصورة: آني كوركدجيان. anniekurkdjian
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة