الوقت هو تسلسل معين، من الماضي إلى الحاضر ثمّ المستقبل. ويأتي التجمّل والهندام كمؤشرٍ لذلك التسلسل. يخبرنا القماش قصص السياق. هل هو في بلاد الشرق أم الغرب؟ هل نحن في الشتاء أم الصيف؟ تأتي حبكة الخيط كراوي لنا عمّا يحدث. هل المُرتدي في حالة حرب أم سلم؟ هل نحن في حالة الراحة أم العمل؟ لمن نرتدي ما نرتدي؟ وهل يغيب تسلسل الوقت مع غياب التجمّل المستحدث؟
يغيب الزمان في هندامنا. نلبس النظّارة السميكة والبنطال عالي الخصر. لكنّ جدتي كانت ترتدي ما يماثله. هل نحن في الماضي أم الحاضر؟ يأتي القماش كتكرّرٍ لأزمنةٍ أخرى. يغيب التجدّد في الشكل. نعيد ما صُنع كأننا لسنا في الحاضر. ما هو جمال الحاضر في لباسنا؟ ما هو “الجديد” في صور الأزياء غير ماضينا؟ نعيد حياكة الروايات السابقة مرة أخرى دون أن نروي قصتنا. يأتي الهندام كمؤشر لاغتراب الوقت، هذا الانسحاب من الاجتماع. لنا الفضاء الكامل بكل روابط الأزمنة للوصول إليه، فكيف لنا أن نحدّد هندام الحاضر؟ يأتي تعدّد الخيارات والفضاءات والوصول الشاسع لكل معلومة كمسار اغتراب عن تحديد شكل أيامنا الحالية. حتّى أنّ المسافة في الوقت كانت أكثر وساعةً مما هي عليه الآن. قصرت المسافة بين العقود، فارتدينا أزياء الستينات والثمانينات.. حتى وصلنا للقرن السابق والعصر الفيكتوري في إعادة تكوين جماليات لباس حاضرنا. هذا الحنين الدائم لكلّ جمال ماضوّي مغاير. نخلق الـ"ڤنتج" والـ"ريترو"، صورُ حنينٍ تحمل لهفة المعنى أو الهوية المفهومة. تأتي القماشة كحياكة لصور نبتغيها لأنفسنا. لكنّ ذلك الخيال يرجع للوراء، ينظر ويعيد رسم أشباح الماضي.
أمرُّ بالشارع ويأتي دفق المحلات اللامتناهية المتكاثرة. المود والموضة والـ"güzel". تكرارٌ لمصنوعات تركية أو صينيّة. قماشٌ يحمل السعر الزهيد والصور المثالية. أتت من أقطاب الأرض لحضني، لأشتريها بخمسة دولارات. يأتي التصميم كنُسخٍ لدور الأزياء الكبرى، فيُعطيك المساحة - أنت ابن الطبقة الوسطى، للحصول على بعضٍ من نكهة استحقاق الجمال. "السعر على الخاص" تقول لي مديرة الـinstagram. وأيُّ خاصٍّ هذا الزهيد في كلّ شيء؟ زُهدُ المعنى والتكلفة والتصميم، صراخٌ لفشل هذا الخمول في الوجود.
لكنّ تلك الدورة تذكّرك بشكل متكرر بضرورة استكمال الاستهلاك. عليك تغيير اللباس بحسب السياق. هل ترتدي نفس القميص في كل صولة وجولة؟ كيف لك أن تخلق صورة الاستحقاق مع هذا الملل؟ نحتاجك في دور متجدّد وملفت، نراك في كادرٍ مع شخصيات متغيرة مع تغير اللباس. عليك أن تتقن المسرحية كما يجب. افخُتْ جيبك في طريقك للعُلا. لا مجال للاحتضان مع بهوت ألوان هندامك الجديد. هو نفسه القديم، فلماذا علينا إنتاج المزيد والمزيد؟ هل في هذا العالم من اللباس ما يكفينا دون الحاجة إلى شفط موارد الكوكب؟
يأتي ذلك الآخر ليخبرني أن البالة أصبحت على الموضة! نسميها "ثرِفت شوب / thrift shop"، نحن الذين خرجنا من دائرة الاستهلاك إلى دوائر الوعي الاقتصادي والبيئي. أُجبِرنا على الخروج لضيق الحال. لم نعد نستطيع أن نلبي حاجة السوق لتلك الصور المثالية، تعبنا وتعبت أموالنا معنا. مع تهالك الاقتصاد والتضخم، لم نعد نقدر على شراء ما اشتراه آباؤنا. نحن أبناء الرأسمالية المتأخرة. فاضطررنا إلى تلميع الباهت لنتعايش مع الواقع الجديد. نُعيد المجرى ونكرره بأسعارٍ تساوي ما سبق، مع غطاءٍ بيئي يصاحب وعيًا مُبهمًا. أجبرنا الحال على خلق رواجٍ مختلف مع اختلاف الاقتصاد. فاضطرت دور الأزياء لخلق موجات من الـ"وعي البيئي" وإعادة استعمال القماش المَرمي، ليرتبط واقعهم بواقع المشاع. يخلقون أزياءً لوعيهم الأكبر وربحهم الأهم. نعيد ونكرر نفس الدوائر والأساليب لإبقاء الحال كما هو. لا مجال للتجدّد مع الربح الضروري.
تختلف الصور، لكنّ الحاجة الكبرى للشعور بالاستحقاق لا تغيب. ذلك السعي للمعنى من خلال الأقمشة. كلٌّ يرتدي ما يرتديه لحاجة في نفس يعقوب. تمظهراتٌ ورموزٌ لواقعٍ معيّن. جوعٌ لحاجة ورغبةٌ لسرديةٍ ولّت، لكنها تعيد إنتاج نفسها لغياب الإنتاج البديع الحق وسط تخمة الاعتياد. تخمة الاغتراب عن الحاضر المُعاش.
الصورة: ملك منصور
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة