يخبره أن يصعد إلى المسرح. يقف ويلقي التحية على الجموع. يتّسع بأفكاره ويخبرها للمشاع. من هو ومن هم؟ وكيف تُحدَّدُ لعبة الوجود التصاعد العموديّ بين الذي يُلقّن ويتلقّى؟ كيف استحوذ على مساحة الصوت تلك؟ تدور الشمس لتسلّط ضوءها على البطل المغوار المُنقذ من الاندثار. تمشي الظلال لتحجب عن "الجموع". هل هو فعل "الطبيعة"؟ أم أنّ في هذا الكون من الشرّ المطلق للأنا التي لا تأبه سوى لاغترابها؟
يصعد الساحر على المنصة ويلوّح بعصاه ليجرف الناس إلى ما يرغب. تأتي رغبته كطيف شبح يستولي على الجماد والأحياء. يرسم الأبنية والأطعمة والكتب. يُحدّد السرد مع الزمان بما يرغب. وبما يستلزم به توسيع جيبه. يُبقي من النحوت ما تُمدّد فيه من عمره حتى يبقى ولو بعد مماته. يتوق الساحر للخلود ما بعد الزمن والاندثار. يترك بعد وفاته رفاتًا يأخذه فراعنةٌ آخرون لبناء الطوب الصلب. ذلك الطوب الذي لا يشبه شيئًا فينا. يُلزم الصمت في الغيوم كي لا ننطق. كيف نسمح لأصواتنا أن تنطق مع هذا السحر؟ كيف نُقنع أنفسنا بالوجود؟ يخبرنا الساحر أنّ ما في رأسنا وهم، رغم لمسنا له. يُسائل وجود الجسد نَفَسه. يخبرنا أنّ في رغباتنا من الوهم ما لن يحصل. أنّ أيدينا وأرجلنا عاجزةٌ عن المشي. يسكن فينا دون رغبتنا. يُنسينا لحمنا وأرضنا. نصارع أنفسنا في تصديق أقوال عقلنا ورؤية نظرنا. هل نحن حقاً موجودون؟ كيف نحوي الوجود كما يجب؟ كيف نصدّق صوتنا وشعورنا وكلامنا؟
يتفكك الوقت مع هذا الساحر، يُحضر الماضي ويُلغي الحاضر والمستقبل. يُلغي المساحة المرجاة، يأخذ الهواء والخيال معه. يدخل إلى القلب وأحلامه. لكنّه سفرٌ لا يكتمل وحده. هي رحلةٌ تكتمل معنا، نحن الجموع. لأن الصوت لا ينوجد دون الأذن، والقوّة لا تأتي من فراغ. القوة والسلطة وما تحتويها من فرعنة تأتي بالصمت المُتقبّل لها. وباليأس الفارغ من المستقبل. يصبح للساحر المساحة في فراغ قلوب الجموع. من نحن؟ كيف نفقه أنفسنا كي نفكّ هذا الطلسم؟
نترنّح بين تكذيب النفس أو تصديقها ثمّ يأتي علاء مع "شبح الربيع اللي فات"، ليخبرنا أن ننتصر للحق دون يقين بالوصول إليه. بزرع الفسيلة ولو قامت الساعة. أن لا نعطي للساحر مجده بالصمت. تبقى المُشادّة بين الحشد والساحر بغياب الصمت مع اليأس. أن لا نرى في أنفسنا من "العاديّة" التي لا تعطي نفسها لواقعها. أن نبقى أحياءً لننظر لما حولنا ولأنفسنا، نُصرةً لواقعٍ قد لا يتغيّر في لحظتها. لكنه قد يحمل المساحة لغياب التطبيع مع هذا الحال. لكنّ المشادّة لن تحضر إلّا بوجود يدّ عليمةٍ بجسدها مع أجساد أخلّائها. والعلم الكامل يأتي في ترابط الصوت بين الحناجر والوقوف المتين في الصفوف. في الاتجاه نحو قبلةٍ نرضاها لأنفسنا أجمعين. أن نعود لأنفسنا للوصول إلى اليقين أنّ فينا من الألم المتوارث المشترك. أنّ الجموع تتشكّل بمعرفة الذات التي ترى نفسها مع غيرها تمشي لخيالٍ ترغبه. والرغبة لا تُخلق إلّا بالعلم. والعلم يتوّسع بعيداً عن الطوب، بل بالتمازج بين العقل والقلب والاستماع لألم النفس. تدرك بعدها أنّ التشابك حتمي بين العوالم العمودية.
ننظر إلى ذاك التشابك ثم نُسائل نفسنا عن موقعنا في تلك العوالم. من هم العاديون في ذلك السياق؟ وهل نحن منهم؟ العاديّ هو الذي يُنسب للعادة والعادة هي كلُّ ما اعتيد حتى صار يُفعل من غير جهد وهي الحالة التي تتكرّر على نهجٍ واحد.1 "العاديّون" هم الذين يرغبون العادة، يرغبون الواقع كما هو. العاديّ الذي لا يأبه بالتواصل مع ما حوله، يطبّع مع الحال كي يعتاشه أو كي يكبر فيه بما يتناسب معه. ذلك الفارغ من الخيال والعاطفة البعيدة عن الأحوال كما هي. يرى أنّ الحياة ستبقى على حالها، وأنّ اعتياد الألم هو المطلوب وليس محاكاته. لكنّ العبرة ليست بالصور، ولا بالـ "تميّز" عن العادة. العبرة هي عدم الموت. أن نبقى في حالة النزاع مع الحياة. وأن لا نرى في أنفسنا من قلّة الحيلة غير المعينة بزرع البذور في واقعها. نشهد أنّ فينا من التعب الذي يربطنا مع من حولنا لنشكّل جموعًا لا تعتاد واقعها بل تشتبك معه. ولا ندع لليأس مكاناً لـ "العاديّة". نبقى في حالة المحاكاة مع الواقع ولو لم نرَ أملًا واضحًا. فالوجود وحده فيه من الترابط مع الأحوال. ننظر إلى أنفسنا وتجاربها، ونفتح أعيننا لمعرفة ترابط الأزمنة مع الثروات والتجارب. أن لا نغترب عن الحقيقة بالغفلة. نحاول تفكيك الزمان وزرع خيال محتمل ولو لم نره.
قد لا نملك فينا من صفاء الوجود البعيد عن الاعتياد، لسنا فائقين عن الـ "عاديّة". لكننا نعي امتزاج التطبيع مع النقد، واليأس مع الأمل. نختبر أيامًا يأكلنا الحال كما هو، ثم نطوّر فينا من النهج الذي يعود لحالة قراءة النفس وحالها. نتموّج بين ظلام الواقع وضرورة التفاؤل. نرحم أنفسنا بأن لا نتوقّع البطولة الخارقة منّا، لكننا نبقى في حال الاتصال مع الألم وملامحه مع أسبابه. بشريّتنا تجبرنا على محدوديتها، لكنّها تفتح لنا مجال الأمل. نسمح للحلم والقلب أن يأخذ مكانًا، لا لسبب سوى أن نبقى أحياء.
1 العَادَةُ : كلُّ ما اعتيد حتى صار يفعل من غير جهد
الصورة لـ ريم الجعيلي
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة