يؤخذ نوحٌ بالطوفان ويُذبح اسماعيل قرباناً في محراب أبيه. ويأتي البياض لعيني يعقوب منفطر الفؤاد من الحزن بعد فقد كبد القلب يوسف. كلُّ نبيٍّ أوتي من البلاء ما وضعه موضع اختيار الإله مقابل النفس. كلّ الغرابة والغربة تحمل معها من الألم ما لا يطاق. وكلُّ ألمٍ يصرخ لأنّ يُسكَنَ ويُسكَّن. نعيش في عالمٍ رافض الألم. رافض التناغم مع تماوج الحياة وشديد العناد مع ضرورة السعادة حتى الثمالة. فنُغرق أنفسنا بكلّ ما يُبعدنا عن الألم بالجموع والعقاقير والدخان وكلِّ محتوى يُخدرّنا عن حقيقة وجودنا. نصارع انفلاش الألم عبر كبته.
الغرابة في هذا العالم هي في الجلوس مع الألم. في التوَقّف عن البحث عن مُسكّن يزيدنا تناغمًا مع هذا الواقع. في انعدام محادثة الصور والعودة إلى محادثة النفس. الغريبُ هو الذي قرّر محادثة الوِحشة. وحشة العنف الذي يسكن هذا الزمن. عنف النفس الفارغة التي تحمل الصور دون المعنى. تحمل الكلمات المنمّقة دون الجدوى. عنف انعدام الجدوى من كلِّ شيء.
يخبرنا الشاعر المتصوّف فريد الدين العطار في كتاب منطق الطير عن سرب طيور تذهب في رحلة للقاء طير وهمي يدعى السيمرغ. ويقول العطار عن السيمرغ أنه "ملك الطيور، وهو منّا قريب، ونحن منه جد بعيدين، مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع، ولا يكف أي لسان عن ترديد اسمه. تكتنفه مئات الألوف من الحجب، بعضها من نور، وبعضها من ظلمة، وليس لفرد في كلا العالمين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه. إنه الملك المطلق، المستغرق دائماً في كمال العز.. كما أنّ الروح تحار عن إدراك صفاته، وهكذا تعمى الأبصار."
أمام ذهول الطيور من عظمة السيمرغ، عزم الطيور على الانضمام إلى درب الوصول إليه. إلّا أنهم وبعد قليلٍ من التفكير، بدأوا بالتعذّر عبر الرحلة. كلٌ لديه عذره بما يتعلْق بماديّات تمسكّوا بها مقابل "الإيمان" بالوصول إلى السيمرغ. وكلُّ طيرٍ يرمز لنواحي معينة من الوجود الإنسانيّ. فكان البلبل شديد العشق بوردةٍ أخذت عقله موقع الثمالة بجمالها وعطرها. فقال: "لذا فإن أحداً لا يدرك أسراري، أما الوردة فهمي المدركة أسراري بلا ريب. وهكذا أصبحت في عشق الوردة مستغرِقاً، حتى فنيت نفسي فناءً مطلقاً." أمّا البطة فكانت شديدة الإرتباط بالماء ولم تستطع التخلّي عن ذاك. فقالت: "لا يوجد في كلا العالمين من لديه الخبر عن وجود من هو أنصع مني وجهاً أو أطهر. إنني أغتسل في كل لحظة بفائق العناية، ثم ابسط على الماء سجادتي؛ فمن ذا الذي يماثلني في الاستقرار على صفحة الماء؟" كذلك الطاووس الذي أُخذ بموقعه بكونه جبريل الجنّة في قصة آدم وحوّاء، فكان شديد الخجل بالوقوف أمام السيمرغ. أما الصقر، فاعتذر من التخلّي عن مكانه الممتاز في مشاركة الرحلة، فقال: "وأنّى لي أن أرى السيمرغ في المنام؟ وأنّى لي أن أسرع إليه عبثاً؟ فكفاني ما أنعم به من حظ من يد السلطان، وكفاني هذه المنزلة في عالم العيان." وكان الهدهد في القصة المرشد في الرحلة. فقال للصقر: "يا أسير المجاز، لقد بعدت عن الصفة وتعلّقت بالصورة، إن كان للسلطان ند في ملكه، فكيف يزدان الملك به؟"
وبعد أن توالت أعذار الطيور عن الطريق، سألوا الهدهد عن كيفية الوصول إلى السيمرغ، فقال: "أيها الجهلة، متى كان العشق مستساغاً من سيىء الطوية؟ أيها المساكين، إلام هذا الجهل؟ حقّاً، لا يستقيم العشق وسوء النية.." وبعد أن أدرك الطيور أنفسهم، عادوا متحابين إلى الطريق وسألوا الهدهد: "كيف يتأتى لنا الإقبال على المسير؟" فقال الهدهد: "إن تقل بترك الروح، تصبح عاشقاً، سواء كنت زاهداً أو فاسقاً، وإن يعاد قلبك وروحك، فانثر الروح، يأتيك الطريق حتى نهايته. الروح سد في الطريق، فكن للروح ناثراً.." وكان الطريق شاقّاً وطويلاً، حتى سالت الدماء من أجنحة الطيور ومنهم من هوى ومنهم من غرق. حتى وصل ثلاثين منهم من بين الألوف إلى المكان المنشود. وجاء حاجب العزة إليهم، فسألوه"... متى يرضى السلطان عما كابدناه من تعب، حتى يرعانا في النهاية بالعطف والحدب؟" فقال حاجب الحضرة: "أيها العجزة، يا من تلوثتم بدماء القلب كالوردة، إن تكونوا أو لا تكونوا في العالم، فهو السلطان المطلق الدائم، ومائة ألف عالم مليئة بالجند والحشم، ليست إلا نملة على باب هذا السلطان الأعظم.."
هرب سرب الطيور من حقيقة الطريق إلى غرق النفس والمادة. نظروا إلى المبتغى والمنتهى بعيداً عن المعنى. نظّن أنّ في نهاية الألم هو الملتقى الأمثل. لكنّ الملتقى هو في الألم نفسه.
الغريب هو الذي خرج من استحقاق الكبرياء لمعرفة الحق. وعرف أنّ الحق طريقٌ لا مبتغى. الغريب هو الذي تناغم مع الألم بلا هزيمة. يقول الشاعر المصري محمد الشهاوي: "اخرج من ذاتِكَ فالذاتُ نقاب. والليل القابِعُ فى جَنْبَيكَ حجاب. ولكي لا تبقى محجوبا، ولكى لا تَحْيَا مغلوبا، لا تستسلمْ لِظلامٍ يطويك، واستَجْلِ النورَ الكامِنَ فيك.. واستنفِرْ أبهى طاقاتِك... فسجونُ العالمِ، كلِّ العالمِ لا شيء إنْ لم تَسجُنْ ذاتَك في ذاتِك."
يُحاكي الغريب الوحشة والألم والخوف والرعب والتعب لمعرفة الحقيقة، يخرج من ألوهية الذات إلى التوكّل مع القدَر دون هزيمة. يعرف الغريب أنه ممر عبور وليس إلهاً خالداً، فلا يُطبّع مع ألوهية الواقع. ويخرج من ذاته ليظهر.
الصورة: من كتاب منطق الطير - منمنمة رسمها حبيب الله
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة