نبحث عن الحقيقة في الأشياء، نلتهم أجساد بعضنا رغبةً بشبعٍ وجوديٍّ لا نجوع بعده. نبحث عن برودةٍ في نارٍ والعةٍ لا تُضمَر. يأكلنا الاغتراب حتى نتبّخر من أنفسنا. نهرب من خيالات رعبنا المُتبخّرة إلى الشهوة المُسكرة السريعة. نلاحق النشوة اللحظية والالتهام العجول والجشع المتآكل تلبيةً لخيالات التوحّش. نحفر في مقبرة اغترابنا عُمقاً يُعمينا عن نور السماء. نُجالس الأموات وملائكتها مع عذاباتها بحثاً عن روح الحياة. يزورنا عزرائيل مع أسئلته المُضنية عن ربّنا وديننا، فنباغته في هجرتنا مع جشعنا الهزيل. نضع قناع التمدّن "المرستق" الأنيق الذي يتجوّل في ثيابه المكويّة ونبني خيالاتٍ عن شخصياتنا وما تحتويها. نشارك جماهيرنا صورنا ومسرحيّاتنا فيصفقّون لأدائنا المُتقن. ندفن آفّاتنا ومُعضِلاتنا وتاريخها ونرميها في العفن فنهاب معرفتها مجدداً. نخشى التعرّي خوف أن نُثبِت لأنفسنا إنسانيتها. نُطمر في دوّامات الكمال فنخشى السقم والألم والجرح. نبني خيالاتٍ كاملة لامعة ما فيها خدش بسيط، فكيف لنا أن نتجرّأ على أن ننظر إلى آلامنا؟ كيف نتعايش مع الناقص والفارغ والبشع والمُملّ؟ كيف نتلاقى مع جثثنا التي أهملناها مع السنين؟ نحن لسنا بشراً نأكل ونشرب وننام ونعرق وتنسلخ أجسادنا وجلودنا عن عظامنا. نحن أشياء أكبر من هذه الوضاعة. نحن، أبناء العرق الأسمى، نجول في المولات والمطاعم بحثاً عن المعنى، عن المادة التي تُخرس الآخر (أو الأَخرى) فينا. نحن "ناس مرتبّين كلاس".
يقول لاكان أنّ "طريق المقايضة مع الحقيقة لا يمرّ عبر الأفكار، إنما عبر الأشياء." أشياءٌ ترمز لأشياءَ أُخرى (أو أَخرى). نضاعف توصيف الكذب في لغتنا وأشيائنا، حتّى تُصبح المادّة خيالاً عن أوصاف أخرى. نستعير الكلمات لنغترب عن الواقع ونخلق أنفساً أخرى، نسخاً عمّا نظنّ أو نرغب أن يكون. نختبر "التحضّر" في المأكل والمشرب والسيّارة دون أن نسأل أنفسنا عن معنى وأشكال الحضارة. نُسقط الكلمات على المادة دون تشريح، دون رغبةٍ بمعرفة العُري. نعبُدُ ما نظنّه عن أنفسنا وصورها المُغتربة عن واقعها. تمظهُراتٌ عن آخرَ نرغب في أن نكونه أو نتعارك معه. تصبح أعيننا لا ترى إلا الأشياء باللغة التي استعرناها حتى تأكل الواقع وكوكبه. تصبح الحقيقةُ مسكونةً بكلماتٍ ليست كالكلمات. نختلق كذبة الوجود بخطف الحروف وتطويبها بما يناسب رأس المال. نسكن الاغتراب بوحشيّته اللامعة المهيمنة الخبيثة. والخبث أكبر في لمعانه. يختبئ في الكلمات والصور ويسحب روحك ووصالك مع نفسك سَكرَةً تلو سَكرَة. أشباحٌ لا تعرف مكانها ونفسها. نحن أهل "الحضارة"، المتكلّمون اللّغات المتعددة، أصحاب الملامح الأوروبية. المُتشقّرون المُتجمّلون أصحاب اللّباقة والهندام المُخاطيِّ واللسان المعوجّ المعسول المسموم. نحن العرق الأسمى فوق العرب، الفينيقيّون الأفهم والأذكى ومنارة الشرق في "الحربقة". أنّى نُقنع الشعوب أن في الوسيم اللامع من السُمّ ما سيُهلكنا؟ أنّى يبصرون أنّ ما وراء سَكرَة المال ما سيقتلنا قلباً وقالباً؟
تُعمينا المادة حتى تَغيب الرؤية ونَسكَر. نُكرّر الكذبة حتى نبني عالماً أكمل بها. نجول عوالمَ نظنّ فيها الخلود والسلطان حتّى تأتي الطامّة الكبرى وتَفرّ كُلُّ نفسٍ بحالها مع وجوهها المُسفرة غير المُستبشرة. تذهب صور الاستحقاق والغرور مع تبخّر الأموال. نستيقظ في اليوم التالي بعد حفلة السَكَرات التي غيّبتنا. وأيُّة سَكرَةٍ تلك التي تمتدّ لعقدَين؟! يقول الجاحظ في كتابه البخلاء: "إنّ للغنى سُكراً وإنّ للمال لنزوة، فمن لم يحفظ الغنى فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله" وقال زيد بن جبلة: "ليس أحدٌ أفقر من غنيّ أمن الفقر، وسُكر الغنى أشدّ من سُكر الخمر." تذهب السَكَرة وتأتي الفَكرَة التي تتبخّر معها جُلُودنا المُزيّفة. من أين نأتي باستحقاق الوجود مع تبخّر المادة؟ كيف نتموضع في سخافاتنا وصِغَرنا بعد أن رفعنا أنوفنا إلى السماء تكبّراً وغروراً؟ يُكمل الجاحظ فيقول: "لا يغترّنّ أحد بطول عمره وتقوّس ظهره ورقّة عظمه ووهن قوته، أن يرى أكرومته، ولا يُخرجه ذلك إلى إخراج ماله من يديه وتحويله إلى مِلك غيره، وإلى تحكيم السّرف فيه وتسليط الشهوات عليه، فلعلّه أن يحدث عليه بعض مخبّآت الدهور، مما لا يخطر على البال ولا تدركه العقول، فيستردّه مما لا يردّه ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه، أضعف ما كان عن الطلب وأقبح ما يكون به الكسب." تأتي "الفَكرَة" لتُدهشنا بالحقيقة وتذكّرنا بالماضي الذي حاولنا طمره. تُذكّرنا أنّ المراحل لا يُمكن أن تؤجل وأنّ الحقيقة ومواجعها لا يمكن أن تتبخّر دون علاجها. أخذتنا سَكَرةُ المال فلم نعد نرى آفتنا، فما زلت الحياة تمشي وما زلنا نأكل ونشرب ونعتاش، فلماذا نتفكّر؟ لماذا نخلق أو نختلق واقعاً حقيقياً إذا كان الوهم جارفاً؟ لكنّ الوهم لا يكتمل ولا يُكمل أيّ أرض. يُكمل الجاحظ قوله: "وإن كانت الحروب بينك وبين طِباعك سِجالاً وكانت أسبابكما أمثالاً وأشكالاً، أجبت الحزم إلى ترك التعرّض وأجبت الاحتياط إلى رفض التكلّف، ورأيت أنّ من حصّل السلامة من الذمّ فقد غنم وأنّ من آثر الثقة على التغرير فقد حَزُم."
قد لا تُخلق الحاجة للكشف عن ذواتنا إلّا في حال الألم، قد نحتاج الوضاعة لكشف الغرور ومعرفة الآفّة. لسنا الكمال الذي ادّعيناه. نُغلق سِتار المسرحية وتتداعى أشباح عوالم الكذب لرؤية القبيح الحقّ. نستيقظ من غفلة السَكَرَات وتعود الروح إلى منزلها لا راضيةً ولا مرضيّة. نهبط مع أوهامنا إلى ما تحت التراب. نكشفُ الكفن عن عفن جثثنا الذي باغتنا الدهر للرجوع إليها. نعود للقبور لمعرفة الحياة والنَفَسِ والنَفس. نُترك فُرادى مع عزرائيلنا لنجيب عن أسئلته: من ربّنا؟ وما ديننا؟ وما هي حقيقتنا؟ على أيّ أرضٍ نمشي؟ وأيُّ مَلمَحٍ هو الصادق في وجهنا؟ كيف نعرف أنفسنا خارج صورها؟
الصورة: رسم لـ اليمامة راشد
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة