تأتي غزة وتعود بي إلى غرناطة. أعود إلى الأندلس وإلى موسى بن أبي الغسان، الفارس الغرناطي الذي عارض مخططات ملكها عبدالله في تسليم البلاد. وآثر على المواجهة، حتى أنه قال: "لأن نموت تحت أسوار مدينتنا (غرناطة) لأشرف لنا وأكرم خيرا من ان يذكرنا التاريخ أننا سلمنا دون قتال.." أعود إلى ثلاثية رضوى عاشور في غرناطة وحوار أهلها عن اختفاء بن أبي الغسان، فكان التجاذب بين اليأس والمقاومة. فقال بعضهم: "غرق أم لم يغرق، لا فرق، ليس هذا زمانه ولا زماننا فلنحمل ما تقدر عليه من متاع ونرحل فبلاد الله واسعة، أو نبقى مسلمين أمرنا لله وللأسياد الجدد ونعيش.." ويتساءل بعضهم عن الملك أبو عبدالله الصغير: "كيف يتعهد ملك بتسليم ملكه؟ وكيف يقضي بتعهد قادة البلاد وفقهائها وكافة أهلها بأن يسلموا طواعية قلاع الحمراء وحصنها وأبراجها؛ وأبواب غرناطة والبيازين وضواحيها؟" أعود إلى أبي جعفر في الرواية قائلاً: "هذا المنحوس ليس أولهم ولا آخرهم. سيذهب أبوعبدالله ولن يخلفه - منحوس أو غير منحوس - سوى ملوك الروم." تكرّر رضوى عين فلسطين في عيون الأندلس، تخبرنا النظر إلى حقائقنا عبر الأزمنة لمعرفتها.
تحضر الشاشة فينا إلى أحضاننا. ننظر إلى الهول العظيم في راحة أسرّتنا. نذهب الى مكاتبنا وصفوفنا ويحضُرُ الدم معنا في جيوبنا. نأكل الطعام في أفواهنا الفارغة من المعنى والعمل ونحن نشهد على الجريمة. نحن الناظرين إلى هذا الروع الكبير. تتحول حيواتنا إلى صورٍ متناقَلة، صورٍ رقمية لا تحمل مع المادة شيئًا. ننظر إلى العيون المفجوعة من دمٍ سائل، نسمع الشهادات الصارخة لعالمٍ صامت، عالمٍ لا يلامس حقيقتنا. تتعدّد الحقائق مع بُعد الصور. كيف نحضن أخوتنا من وراء الشاشة؟ كيف نُنقذ الجريح مع رقمية الصورة؟
أفكر في عوالم الصورة، في مراحل رؤيتنا لهذا الهول. جميعنا بعيدين عن هذا الألم، جميعنا عيونٌ ناظرون إلى هذه الفاجعة. جميعنا لا نحوي ألم المجزرة. جميعنا نملك مسافةً مع هذه الشاشة. وجميعنا وراء الشاشة. ننتقل في أرشيف الألم بين الأزمنة لتأكيد الواقع. إنه ليس ألماً لحظيّاً، إنما ألمٌٌ متوارث. يأخذنا إلى السنين السابقة، إلى الصور السابقة والفواجع المتسلسلة. يذهب الوقت مع رجوع الألم. نعود إلى الذاكرة، إلى ما مضى لنفهم ما يحصل.
أعود إلى طفولتي مع الانتفاضة الثانية، أرجع إلى محمد الدرّة واللقاء الأوّل مع الحقيقة. تصبح فلسطين تلك الطريق للرجوع إلى النفس وحقائقها. أجول في عوالم الشاشة وأعود إلى أنشودة حفظتها عن ظهر غيب، ثم أخذتني الأيام لأظن نفسي أنّي نسيتها. "عدموا غصن الزيتون، ضربونا رصاص ومدافع، مسموحلهن شو ما يكون ونحن مش مسموح ندافع." أعود إلى لُبّ عجينتي وتنهمر الدموع معها. أسأل نفسي عن عوامل الزمن و"النضج". كم حقاً يمكننا رسم المسافات مع تلك الآلام. يصبح الجسد أرشيفاً لذاكرةٍ تظنّ نفسها قد نسيت، إنما البواطن باقية.
أعود إلى الياسين وعيّاش، وصور الأبطال التي ألفتها. أعود إلى قصيدة: "عياشُ حيٌّ، لا تقل عيّاش مات.." وكاتبها. التقيهم مع جسدٍ قد كبر، وعقلٍ ظنّ نفسه أنه تغيّر. أعود إلى حيواتهم في أزمنة مغايرة. أزمنة تنظر إلى فلسطين بعيونٍ ضائعة. أعود إلى مفاهيم الشهادة والموت. الشهيد هو ذاك الذي قد "شهد" الحدث، ؤأخذ نفسه إلى الجنان. هو الذي لم ينظر في الموت نظرة الفناء إنما نظرة البناء لما بعد رحيله. تفكّك فلسطين مفهوم "الذات" و"النفس" وتحقيقها. تُصالحنا مع الفناء وتُعيدنا إلى المعنى.
تذهب نفسي إلى "أسطرة" القضية، وتحويل قصصها إلى "ميثولوجيا" تُشعرنا بمعنى الخيال في القوّة. أترنح بين "واقعية" الحدث و"إيمان" الشهيد. أعود إلى وضوح المعركة في عيون أهل غزة. ووضوح قوّة الإيمان الذي يصوغ أشدّ الآلام وأكثرها عنفاً.
أفكر في مفاهيم الموت والحياة. أنظر إلى الجسد الذي يألف الموت والنهاية. يألف وحشية حقيقة العالم مقابل أجساد لا تعرف النهاية. أجساد مغتربة عن مفاهيم الرعب والدم. أفكر في الفناء والشهادة والربوبة. أجسادٌ تصنع من نفسها أرباباً لتحكم فناء أجسادٍ أخرى. أندهش من عوالم "الحياة"، عوالم مع عيونٍ غاشية عن عُريِّ هذا العالم. يتجزّأ الواقع مع تجزّؤ القارات، وتتوضح موازين القوى بين الهياكل العامة. فلسطين تكشف الأوجه مع حقيقة وحشيّتنا. تُعريّنا من الكذب واللباقة السياسية الفارغة. تختبرنا في جوارحنا قبل أملاكنا. تُعيد الأزمنة إلى مكانها. وتُعيدنا إلى أسئلتنا.
الصورة: شذى صافي (occupiedshatha)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة