يخبرنا الموت أنه في حال تحاورنا مع الصاروخ، فإنه ليس بزائرنا. فإذا مرّ الصوت، وسمعناه فهذا يعني أنه أصاب غيرنا. يصبح صوت صاروخ دليلاً على بقائنا على قيد الحياة. ويصبح الصمت والسكوت دليلاً على النهاية. ويصبح تحاورنا مع السماء والربوبية مشروطاً بكمّ الموجَات التي تدخل آذاننا. هل نلقاه نحن أم أخوتنا؟ وهل نحلو بصمت النهاية ما بعد هذا الكابوس؟ وما هو الحلم الذي يُلقى على عاتقنا إذا أصاب الموت والصاروخ إخوتنا ولم يُصبنا؟
أتأمّل التقنية والعتاد. صاروخٌ يماثل قُصر قامتي؛ مترٌ ونصف. يُلقى على بِناءٍ يحوي على الأقل عشر طوابق. تحوّل التقنية هذا البناء إلى رُفات. رمادٌ لا يحوي أي رُكام. يستوي فيه حجر البناء مع الجسد البشري حتى لا نستطيع أن نفّرق كيف نرثي الجسد الراحل. وكيف يتشكّل الرثاء مع الأجساد التي لا تُلقى والأماكن التي لا يمكننا الوصول إليها. كيف نرسم لأنفسنا نهاية حيوات أحبائنا ونحن في كلّ هذا البعد والتوحّش. أُسائل نفسي كيف نُعدّ العدة، وكيف نضاهي هذا الصاروخ. أحاور الشهيد الذي رحل، الذي ذهب بكلّه إلى حلمه الذي أراد. دون أن يكترث بالصوت والصمت وطول الصاروخ وجبروته.
"رغمّ تأملٍ فارغٍ من المسرّة، يتابع الشهداء دربهم نحو الحلم الذي لا يُرى. وذلك لسببٍ بسيط، فالشهيد لا يتناسل من الشهيد الذي سبقه. وإنما يأتيان من مملكة الأحلام الضرورية. والتي لا موت لها ولا وجود من دونها. الشهيد فكرةٌ والأحلام أفكار. ولأن الأحلام لا تموت، يتوافد الشهداء من غير انقطاع."
يكتب د. فيصل دراج في كتاب بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية عن الشهادة فيقول: "يمكن للبلاغة أن تستدرج الكلمات وتلبّيها طائعة. غير أنّ شيئاً يركد خلف جدران البلاغة، يُذكّر بشابٍ لم يعرف في هيجانه النبيل أنّه أضاع جزءاً من أحلام الشباب الأليفة من أجل حُلمٍ أعلى، بقي مُضيّعاً. ويسأل من وقفة عينه على ابن الشهيد منكمشاً: إلى أين يذهب الشهداء؟"
يخبرنا دراج قبل ذلك عن سؤال الشهادة فيقول: "في الشهيد بعض ملامح الفكرة، إن لم يكن فكرةً أُخرى. حتى وإن غسله الدم وسارت خلفه الجموعُ يوماً، وبكت. والأفكار التي الشهداء صورةٌ عنها، تذهب إلى لا مكان. راويةً على من يُحسن الاستماع ولادة الأحلام وتكسّر الأحلام. شيءٌ من الخيبة وأشياءٌ بالغة الجمال، تلازم صورة الشاب المتمرّد الذي أصبح شهيداً. وما كان جماله في خطاه المجتهدة إلى وطنٍ مُضيّع، ولا في استعدادٍ نبيل لمصافحة الموت. بل في إرادةٍ غريبة تمزج هادئةً بين الموت والحرية. وتستولد الوجود الأصليّ من وجود يوميٍّ توقّف. يذهب الحالم إلى حلمه ويغثُّ المسير، مؤمناً بأنّ السير إلى الحلم أجمل من اللقاء معه."
أستذكر رجل الظلّ الذي ذهب، والذي أوصانا صباح الحلم بالغضب وبعدم استحالة نهاية الكابوس. يُخبرنا أننا لسنا وحدنا، بل أنّ ملائكة الأرض والسماء معنا. يذهب رجل الظلّ إلى عوالم السماء لاستمداد الحُلم. يُآزرنا بملكوت السماء لكي نذهب إلى ما بعد النهاية. يُذكّرنا أن الانتماء أكبر من وهم الرعب. يوجّه الظلّ لغته إلى كامل الجسد، وإلى كلّ عضوٍ منه. يُعيد تسمية الأماكن والمدن مع حلمنا الأكبر موازيةً مع نومنا الأعمق. يُخبرنا شبح الظلّ أن نستذكر الحلم، يخبرنا عن الداخل - عن اللد وحيفا ويافا. وكأنه يُريدنا أن نستفيق. ألّا نرى المستحيل مستحيلاً. يخبرنا بالنهاية ويكرّرها مراراً وتكراراً. "قد انتهى هذا الزمن.." يستولد كما يقول فيصل درّاج "الوجود الأصلي من وجودٍ يوميّ توقّف." كأن غزّة تُعيدنا إلى الحقيقة الكبرى وتزيل قشور جُبننا الوضيع في الانسياق إلى لقمة العيش مقابل لقمة الوجود الحقيقي.
يربط الظلّ فلسطين بلبنان والأردن وسوريا والمغرب العربي، ثمّ تذكرنا الدماء من بعدها بعمُق الغفلة. عُمق نومة أهل الكهف الذي رسمه الوهم لهم، يُذكرنا بالحدود والأنظمة أمام الحلم الأكبر. وبأنّ أيدينا يمكنها أن تكون جزءاً من هذا الخيال الحقيقيّ. يعود الظلّ إلى التأويل الأوّل ويخبرنا أن ننفر خفافاً وثقالاً، أي بما أوتينا به، أي بكل ما استطعنا به سبيلاً، أي جميعنا، صغاراً وكهولاً. يعيدنا إلى الجموع، إلى الحشد الأكبر، إلى أن نعبر من الاستجهال إلى المشاركة بكل الأدوات. يذكرني بحديث رسول الله: "مَن رأى منكم مُنكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". يُعيدنا الشهيد المُستظلّ إلى الزمن الحاضر، فيقول مردداً: "اليوم اليوم.." يخبرنا أننا نحن من يكتب التاريخ وأننا نحن من "نفتح صفحة في التاريخ". يُعيدنا إلى الاستخدام دون الاستبدال. يخبرنا درّاج أنّ "ليس في مكان الشهيد المجهول أحجية، لأنّ الشعوب لا تولد واعيةً وإنما تقترب من وعيٍ لن تصله عن طريق الشهداء والحفاظ عليهم. ففي الشهيد المجهول ما يوقظ ذاكرةً متكوّنة، وما يُسعف على تكوّن ذاكرةٍ لم تتكوّن بعد. وفيه ما يدفع بذاكرةٍ إلى إتلاف أُخرى. وبسبب هذه الذاكرة الممزقة، يكون الشهيد جزءاً من الماضي وجزءاً من المستقبل. وليس له في الحاضر صورةٌ واضحة."
في غياب وجوه الشهداء دروسٌ وعبر. في الظلال التي لم نرَ وجهها لعقود إلّا في حين فراقها هذا العالم. هذا الظلّ وهذا الاختفاء مع وجودٍ أكبر وارتباطٍ أوسع ينقاد إلى عوالم الفرد والظهور والمشهد. يصرخ في غيابه المعنى الأوسع المفقود. في صوته الذي قلّما نسمعه. يُذكّرنا بعطش الحُلم بعيداً عن وهم الوجود الضئيل في حواف العوالم المطرّزة بالموت. ولبعض السخرية، يُرجعنا الظلّ إلى وجهنا. إلى النظر خارج الغفلة والزمن. رؤية أحشاء البلاد وعُطوبها، وهنا نعني البلاد كلّها. رؤية الجمال كلّه في حبّ الأرض والعودة. العودة الحقّة إلى المستقبل والنَفُس. أن لا نقبل هذا النقص في الهواء. أن السماء الواسعة الحاوية أرواح الشهداء الحالمة، تستطيع أن تحوي حياةً كريمةً تليق بالأرواح المُتعبة على الأرض.
الصورة: رسم لـ ناجي العلي