عندما تغلق كتابًا، هل تتوقف الرواية وتعلّق شخصياتُها نشاطاتِها؟ ألا يعتريك شعور بأن الكلمات تتعثر في عتمة الصفحات فيتغيّر مسار القصة من حيث تركتها (وهو ما تكون تجهله أساسًا)؟ أو… هل تأمن لاستئناف القراءة من حيث وصلتَ، من دون أدنى شك في أن ثمة ما تغيّر قبل ذلك (وهو ما تكون عرفته حتى ذلك الحين)؟
تذكّرتُ أن محمد شحادة لم يكمل سلسلة "سرقتُ يدَه حين كان يضعها في جيبي" في العدد الماضي (12) من "رحلة" واكتفى بنشر معلّقة "26". كنتُ متلهّفًا لقراءة الجزء الثالث لكي أتابع ما الذي حلّ بالسيد واللصة كاندي، بعد مقتل زوجها اللص جايمس برصاصة طائشة شقّتْ طريقها، بذكاء خارق، إلى مخّه. فهل هي استراحة ستسمح للشخصيات، تحت جنح ليل الانتظار، بتغيير الخطة التي رسمها لها محمد؟ أم أن القصة انتهت وتركنا المؤلف أمام نهاية مفتوحة على احتمالات؟
لماذا يرتبط الليل والظلمة بالشك والقلق والخوف والإحباط؟.. لعلّ الجواب عند العالِم ابن الهيثم (أبو علي الحسن بن الحسن)، فهو أول من درس التأثيرات والعوامل النفسية للإبصار. وعليه، وقبل تعقّد علم النفس وتأزّم عُقَده، اقترن الأسود بالقلق والإحباط وضيق النفس..: حسّيًا بحلول الليل ("الليل ما له صاحب"، كما تقول العرب)، ومجازيًا بحضرة المجهول.
وحده الخيال ينسف تلك المعادلات. خيال يركّب ظلمته وأسْوَده ووهمه ومجهوله بعيدًا عن حالاتنا النفسية، كما في كتاب "العوالم الأخرى" (1895)، لمؤلف الخيال العلمي روزني إينيه Rosny Aîné. اسمه الحقيقي جوزيف هنري بوكس، فرنسي من أصل بلجيكي، ويُعتبر من البارزين في هذا الصنف الأدبي، مثل معاصره جول فيرن.
وفي فصل بعنوان "عالم مختلف"، يروي إينيه قصة حياة رضيع بنفسجي اللون (هو الراوي) أحبته أمه ورعته، بينما نفر منه أبوه والمحيطين به. وما لبث أن اكتشفت مربيته أن صحته تتحسّن كثيرًا عندما يشرب الكحول التي صارت قوته اليومي مع أغذية أخرى. كان هزيل الجسم ولكنه سريع جداً، بوثبة يصل إلى مدرسته.
وفي مرحلة ما من حياته، تغيّرت عيناه وأصبحت حدقتاه كَمْداوين (غير شفافتين). وهو أصبح أعمى من نوع خاص ولم يعش في الظلمة، بل على العكس، تحسّن بصره كثيرًا: بقي يرى طيف الألوان بتدرجات من الرمادي، وبقي اللون الأخضر عنده هو العتمة أو الليل، ولكنه راح يبصر عبر الغيوم ويرى النجوم من خلفها، وعبر الجدران من الخارج إلى الداخل وبالعكس.
ولمّا كبر، اكتشف كائنات حيّة تعيش بيننا نحن البشر. وراح يدرس تركيبها وسلوكها: كائنات لا نراها ولا نشعر بوجودها. تجهلنا ونجهلها. ومع ذلك، نتفاعل معًا وتأثيرها علينا وعلى الكوكب كتأثيرنا عليها وعلى الكوكب. هي فصيلتان: "موديغن" Moedigen، وتتميّز بالطول، و"فورن" Vuren، وأشكالها غير منتظمة. وتدور حروب شعواء في ما بينها. هذا ما نقله إلينا الرجل البنفسجي من عتمته الخضراء. ونهاية قصته مفتوحة على توقّع المزيد.
ثم حدث ما حدث… ذات ليلة صيفية على شاطئ صور الرملي، اختفت الأنوار وراحت الأمواج تضرب أقدامنا بلطف، تدعونا إلى السباحة. استجبتُ فورًا إلى دعوتها. تقدّمت خطوات قليلة أخذت نفسًا وغطست في الماء. لم أعد أشعر بي. لا شيء. دقات قلبي. خفتُ لكني أجبرتُ نفسي على البقاء تحت. لم أعد موجودًا لكني لست ميتًا ولا متوارياً. أسود حالك مظلم دامس. أنا هنا لا أحد يعرف مكاني إلا أنا… نفدت الأفكار من رأسي.
بعد وقت قليل، شعرتُ بوخز ألمه أخذ يتعاظم في كل أنحاء جسمي. اضطربتُ. فوقفت وأخرجت رأسي من الماء وتنشّقت الهواء. استمر الوخز. صوتّ نصحني بالعودة إلى الرمل. فخرجتُ سريعًا. كنت أتعرّض للسعات حمضية من قناديل البحر. خفّ الألم تدريجًا.
لوهلة، ظننتُ أن كائنات الموديغن والفورن قررت إعلان حضورها الكثيف في عالمنا، وتهيأ لي أن الرجل البنفسجي يقود هجومها… تبًا للقراءة! تبًا للخيال الذي يطمح في أن يصبح حقيقة!
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة