إلى التي خذلَتكَ، إلى البلادِ التي قتلَتكَ ،إلى كلِّ المشرّدينَ وأنا منهم.

"موسُ الحلاقةِ في أيدٍ رقيقةٍ، إنّه لأمرٌ مثيرٌ للرّيبة"


- قالَ الرّفيقُ غدًا سأعودُ 

لكنَّ الموتَ بُرتقالةٌ

والليلَ سفّاحٌ أبيضُ والخنازيرُ تُضيءُ السّماءَ.

- قلتُ: انْتظِرْ أن ترمِشَ القنابلُ أو الله 

 وسنعودُ سويًّا

- قالَ: سأذهبُ لأقضيَ حاجتي 

لأنَّ الله لا يجلسُ هناك 

ولأنَّ الأرضَ حمّامٌ كبيرٌ 

أو كيسُ قمامةٍ 

رماها اللهُ من فوقٍ 

دقيقةٌ وسأعودُ انتظرني 

أريدُ كتابةَ شيءٍ لزوجتي 

لأنّه لا أحدَ يراقبني 

لا اللهُ 

لا القنابلُ

ولا العدوُّ 

ولا حتّى أنا 

أنا "حُ رٌّ" قالَ  

ثمّ ماتَ.

في الصّباحِ التّالي

حاولتُ انتشالهُ 

لم أجدْ منهُ شيئًا إلا يدًا واحدةً 

بقيَ منها إصْبَعا السّبّابةِ والابهام 

أخذتُهما 

ووضعتُ قلمًا بين إصبعيهِ وكتبتُ:


لقد مَضيتُ أَهُشُّ الَيباسَ

لئلا أُوَرِّطَ نفسي بالزَّنابقِ 

إذا تفَتَّحتْ يَدُكِ على أوّلِ البحرِ

وتنَفّستْ صُدفةٌ تعلَّقَتْ 

على أطرافِ خَصركِ الممتَدِّ 

إلى آخري

أو كخُصلةِ شعرٍ منكِ

سقطَتْ على خنجرٍ 

فذبحَتهُ

تُسرِّحينَ الهواءَ 

تُغلقينهُ تَفتحينهُ

منِ الطّارقُ؟ البابُ نفسُهُ

المجرى يَصُبُّ في النّهرِ 

والبحرُ في السَّمكة 

وأنا فيكِ.

 

الطّائراتُ التي تَقفِزُ من أسناني

إذا قُلتُ: أُحِبُّك

والأَبوابُ على الأبوابِ

والحربُ سماءٌ صافيةٌ زرقاءُ 

تُقَلِّدُ مِشيةَ السَّجادةِ الفارسيَّةِ على حذاءِ البَهلوانِ السّاهِرِ معِ الله.


رِجْلي التي تَقْفِزُ من يدي إليكِ

لو كانَ باستطاعتي وَصَلْتُ قَبلَ كَلمةِ "وصلتُ إليكِ"

أَشتَري بوصلةً بلا عقارِبَ 

لأَعرِفَ مكانَكِ

أُجري مُكالمةً هاتفيّة 

أَبعثُ رسالةً أَقولُ فيها:

إبْقِ مَكانكِ ريثما آتي 

أنا آتٍ.


سَأَتَأخَّرُ لأنّني آتٍ

ورُبَّما أَدعَسُ 

على لُغمٍ لم يَنفَجِرْ 

لأنّني انفَجَرتُ عنهُ

وربَّما أَصطَدِمُ بخوذَةِ الأرضِ 

فأسمَعُ رنينَ قَلبيَ الحادَّ كالرَّصاص

فَأَموتُ مشلوحًا 

على نَشازِ فوَّهَةِ الحمامةْ

وَتنمو بين عينيَّ أغنيةٌ 

وسبعُ زنبقاتٍ وطلقةُ رشّاشٍ 

وربَّما ألتقي في الطّريقِ إليكِ 

معِ الطّريقِ إليكِ؟

وربَّما ألتقي في الطّريقِ إليكِ 

بالصُّدفةِ معِ الصُّدفة

أَشتُمُها 

أشتُمُكِ 

وأشتُمُني 

حتّى أَتعبَ من كلِّ شيءٍ 

وربما أتَكَسَّرُ كالبَنَفسجِ في صوتِ الأوبِّرالياتِ

ورُبَّما أصِلُ إليكِ مُتَفَحِّمًا من أَثَرِ البياضِ 

ومَشيتُ 

حينَ لم أَمشِ 

رأيتُ نملةً  تذكّرَتْك

فَكّرتُ أنَّ الجبالَ كانت تُحاوِلُ تَسَلُّقَ شيءٍ ما

فَظَلَّت مُندهِشةً إلى الأبدْ   

رُبَّما رُكبَتيكِ؟!

رغمَ ذلكَ كلّهِ

لا أُحاولُ الوصولَ إليكِ

في الطَّريقِ إليكِ.


لكنْ ظلّي غنِّي 

لأَزيدَ على السَّماءِ عُصفورًا

أو على العُصفورِ سماءً

أو على كليهما أنتِ؟

وَردّدي هوَ لن يَصِل 

لكنّهُ آتٍ 

لأنّهُ لم يَصل 

ولكن سوفَ يَأتي.


ظلّي غنّي 

لأُحصيَ أَصابِعكِ غَيمةً غيمةً

وأُحصي النَّمشَ تَحتَ عينيكِ خيمةً خيمةً

وَأُغَمِّسَ الأيّامَ أطلّي بها خمسةَ شَبابيكَ مُعلَّقةً على خَصرِ فنجانِ قَهوة

غَنّي 

لأنسى القَهوةَ

وأنسى أَصابِعكِ على أوَّلِ المشهدِ الرَّطبِ في الكناياتِ

غني لأنساكِ

لأعرِفَ ما أَتلَفَتِ الطّواحينُ منّي

أدورُ ولا تدورُ 

تَدورُ ولا أَدورُ 

ونبقى واقِفَينِ إلى الأبدْ.


لو ولِدنا جميعًا بلا هويةٍ 

بلا اسمِ البلدْ 

الّذي لا أُقسِمُ فيهِ لا بوالدِه ولا بما وَلَدْ 

لحَذَفتُ منَ التّاريخِ ساعتينِ وأضفتُهم إلى يومِ الأحَدْ 

وركلتُ مؤخّرةَ الرّزنامة 

وصرختُ: فلنسقط سويًّا لا لا وقتَ للأبدْ 

لو ولدنا 

لا أسماؤنا

لو وُلِدنا من كَلمةِ "بلا" 

وَجعَلنا من الطّينِ خُبزًا

ومنَ الوقتِ زَيتًا 

ومنِ الجوعِ كَفافَ يومِنا 

وناديتُ في شارعٍ كلّهُ إناثٌ 

بيضٌ، سودٌ، سمرٌ،

"يا بِنتُ"

لرَدَّتْ جَميعُهُنَّ 

ونسيتُ كلَّ الصِّفاتِ

هنَّ أنتِ جميعًا.


تَمَهّلْ؟ 

صوتٌ ناعِمٌ رمى عليَّ كلَّ أنواعِ الشَّتائِم

تَمهّلي 

آخ تمَهّلي 

ليسَ ڤازُ الزّهرِ 

أرجوكِ ...أَخْ أخْ رأسي

أَظنُّ أنّني وَصَلتُ إليكِ 

تبًّا لَكِ.


زَغرَدتْ تبكي 

وقالتْ: 

أَينَ كُنتَ أَيُّها الغبيّ؟ قلتَ لي 

ظَلّي غَنّي غَنَّيتُ لكَ 

للحبِّ، للحربِ، للبلادِ، والأولاد

لله، للرّمادِ 

ثَقَبتم صوتي

بِسبعِ رصاصاتٍ

لأنّكم قُلتم لي: ستُصبحينَ ذاتَ يومٍ نايا

أما أنتَ فكنتَ الثّامنةَ 

ماذا سَأُصبحُ الآنَ 

أَرمَلَة؟

أخبرني ها... أَينَ كنت؟


كُنتُ أَشتري لَكِ زُجاجةَ كونياكَ

وبعضَ النَّبيذِ الأحمَرِ

لكنّني في الطّريقِ إليكِ 

تَعَثَّرتُ بيدِ جُنديٍّ مَقطوعةٍ

وكانَ الطَّقسُ بارِدًا

فَتَركتُ زجاجَةَ الكونياكِ بينَ يديه

ووَشوَشتُهُ 

تصبِح على خيرٍ يا رفيق

إشرب يا رفيق

ما زلتَ تمتلك يدًا

الشُّكر لله

أما النّبيذُ الأحمرُ 

فجاءتني به على عَجَلٍ فِرقَةُ المُشاةِ وقالوا لي:

سيارةُ الإسعافِ تَحتاجُ إلى دمٍ

ولا يوجَدُ من ينقُلُها إلى المشفى

فَتَحتُ خَزّان الوقودِ 

وَسَكبتُ النَّبيذَ داخلها 

وأعطيتُهم أحد شراييني للوصول 

وَكنتُ سرَقتُ لكِ وردةً داشرة 

نبتت على فوّهةِ بندقيّةٍ

لكن في الطّريقِ إليكِ

رأيتُ التّابوتَ جائعًا

قايَضتُ الوردةَ بالقمحِ

وأطعمتهُ يديَّ.


كانَ معي خُبزٌ لأجلِ غَدائنا

بِعتُهُ واشتريتُ للرفاقِ الرَّصاصَ 

قلتُ: مُتْ جوعًا

لكن لا تمُتْ مقتولًا

ما زلتُ رغمَ الحربِ حيّا


كانَ معي خَدّاكِ

وبعضُ الهواءِ 

وصوتُكِ 

وغناؤكِ المستمرُّ

أمّا الآن، وقد وَصلتُ ميتًا إليكِ ومعي يدُ الرِّفاقِ 

حفرتُ بضرسي على التّابوتِ 

لا تحملوني

احملوا البنادِقَ 

واذهبوا للقتال.


بينَ الطَّلقةِ والطّلقةِ 

أحسستُ بإيقاعِ الموتِ 

فرقصتُ كالصّوفيّ

لكنّ الفارقَ أنّي كنتُ واقفًا

والأرضُ هي الّتي تدورُ

الرّصاصُ، القنابلُ، الدّباباتُ، الموتُ، والملائكةُ تدور

حين أصابَتْ وجهي خمسُ رصاصاتٍ

وكأنَّ الأرضَ بَكْرَةُ مسدّسٍ 

تلعبُ بوجهي الرّوليت الرّوسيّة 

تدورُ الأرضُ صدى الله عندما صَرَخَ 

كان صوتُ الرّشاشاتِ صاخبًا

لكنَّ صوتَ الأمّهاتِ كان أعلى

حينها تَجلّى لهم الله

 قال: أنا نازلٌ 

وأنتم اصعدوا إلى الأعلى.


لأنّ صوتَ اللهِ أزرَقُ 

لأنّ العالمَ مربوطٌ بخيطٍ رفيعٍ تَضعينهُ في إصبَعِكِ 

تَخدُشينَ الهواءَ 

لأنّ الهواءَ خلخالُ غنائِكِ

ويداكِ مفتوحتانِ للشّبابيكِ وللاستعارة

وللمدى المُغلقِ في عينيكِ المفتوحتينِ

لا أُحاولُ أن أكونَ طائرًا

لأنَّ السّماءَ موجودةٌ 

لا أفكِّرُ أن أطير

ولأنَّ اللّحظةَ بزّاقةٌ عمياءُ

تسبِقينها وليسَ بوسعِكِ اللحاقُ بها

وَصلتُ ميتًا إليكِ

أُحِبُكِ لا تَنتظريني 

ألم أَقل لكِ أنّني آتٍ.


أكملَتْ وأشاحَتْ بنظرِها إلى آخر الوصيَّةِ 

وجدَتْ أنَّ هنالكَ جزءًا مفقودًا

وصوتُ القنابلِ قريبٌ

والعدوُّ قريبٌ 

كانت تريدُ أن تنفجرَ 

لم تستطع

صرخَتْ وقالَتْ الأرضُ قنبلةٌ ستنفجرُ عمّا قريبٍ 

أمسكتِ الرّشاشَ من يدِ زوجها المقطوعةِ

لم تستطع نزعَ الرّشاشِ من يدِهِ 

نزعت يدَهُ والرّشاشَ معًا لتطلقَ على أيِّ شيءٍ 

لكنّه كان خاليًا من الّرصاصِ فتحَتْ مشطَ الرّشاشِ 

لتجدَ أنَّ الجزءَ الأخيرَ من الوصيّةِ مخبَّأٌ على أولِ مشطِ الرّشاشِ

كان قد خبّأَ آخرَ الوصيّةِ مكانَ الرّصاصةِ الأولى وقرأتْ:

  

عزيزتي تحيَّةً ورصاصةً وبعد،

لأنَّ قبلُ قد سبقتها

أظنُّ أنّ التّحيَّةَ وصلَتْ إليكِ شخصيًّا مع يدي المقطوعةِ

ظلّي غنّي

تركتُ لكِ داخلَ جيبي عند الجهةِ اليسرى شقفةً صغيرةً من الوصيّة 

لأنّ الرّصاصةَ أصابت قلبي والورقةَ معًا 

ولأنَّ الوَرقَةَ مملؤةٌ بأسماءِ الذين ماتوا

لم أجد متّسعًا للكتابةِ 

مَزَّقْتُ الشّقفةَ الأخيرةَ من الوصيّةِ وخبّأتها

اقرئيها؛ وبعد انتهائكِ منها ارميها في يدِ أحدٍ ما

وأخبري الأولادَ أن يغنّوا

كلّنا للوطن 

وأنّ أباهم ذهبَ في كفنٍ وعادَ في كفن

  

زوجتي العزيزةُ اقرئي على مهلٍ 

وبعدَ أن تنتهي خُذي منْ رفيقي رصاصةً لا تهدريها بقتلِ نفسكِ 

إطعجي الوصيَّةَ 

ضعي داخلها الرّصاصةَ 

هنالكَ عند الشّرفةِ ڤازٌ غيرَ الّذي رميتهِ عليَّ 

احفري في الرّملِ قليلًا ضعيهما برفقٍ واسقيهما كلَّ يومٍ حتى يتفتّحا ويصبحا 

جنديًّا أو إلها.

الصورة: بلغراد - باني دجوردجيفيش

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button