حصل على وظيفة مُنسّق الموارد البشرية في شركة لتصدير الأعلاف. وهي الوظيفة التي كان يطمح إليها بعد تخرّجه من الجامعة. وفي يومه الأوّل، لم يكن بحسبانه أن حياته ستتغيّر إلى الأبد، وليس فقط على الصعيد المادي. كان صاحبنا امرَأً بسيطًا، لا يأبه للتكلّف والتظاهر المُريب. وفي صباح اليوم الأوّل من العمل، لم يعُد كذلك. حشدٌ من البِدل الرسمية ومعاطف الفرو والأحزمة والأحذية والقُمصان التي تصرخ في وجه رائيها: "أنا علامة تجارية معروفة وباهظة الثمن، فمن أنت؟"
ووسط ذلك الحشد من المختالين، لم تدمْ مقاومته عالم الاستعراض مرتديًا كنزة وبنطلون "جينز"، أكثر من بُرهة قبل أن يتسلّل إليه الإحساس بالدونية والعار. وذلك بسبب مُحيطه المُتكلّف من جهة، ومن جهة أخرى شركات الـ "براندات" التي تطوّقه بالإعلانات على الطُرقات ومواقع التواصل الاجتماعي… إلّا أنه استطاع التعامل معها وتجاهلها طوال حياته، فهو يعرف أنها إعلانات لأُناس يُريدون بيع مُنتجاتهم للكسب المادي فقط، وأن الحديث عن القيمة التي تُضفيها الموضة على جوهر المرء ما هي إلّا بدعة تسويقية لهذا الغرض.
في "كتالوج" الشركة للملابس المطلوبة، انزلقت قدماه لأوّل مرّة نحو هذا العالم وعلقت، كما لو أنه وقع في مصيدة للغزلان. وبدافع رغبته بالحفاظ على عمله ذهب صاغِرًا، يدفعه التيار، إلى أوّل محل "براند" واشترى ما استطاع إليه سبيلًا، قبل أن يحصل على مرتّبه الشهري الأول. لم يكن يملك المال الكافي، فاستدان من أُمِّه التي خبّأت القرش الأبيض لليوم الأسود وأوقات الضيق. وقال لها أنهُ سيعوّضها في نهاية الشهر بمبلغ مضاعف عن الذي استلفه منها. ثم حصل ما حصل.
ذهب في اليوم التالي إلى العمل بملابسه الجديدة التي تواكب الصيحة. وبعد أيام قليلة، اتّسخت هذه الملابس وأصبحت بحاجة إلى غسل. فاضطر إلى أن يحضر إلى عمله بملابسه السابقة، فعاد إليه ذلك بالاغتراب. ففكّر في أنه كلما غسل الثياب الجديدة سيضطر إلى ارتداء القديمة ريثما تجهز تلك الجديدة التي سيضطرّ أيضًا إلى ارتدائها لأيام قبل أن تتسخ من جديد. وتكرار ارتداء الملابس نفسها كل يوم علامة سيئة جدًا في عالم المظاهر. وعليه، أصبح يحتاج إلى بدلات أخرى. فكيف سيوفّرها هذه المرّة؟ وقع اختياره على صديق الطفولة. طلب منه المال، من دون أن يُطلعهُ على السبب، لأنهُ أحس في قرارة نفسه بالعار، أن يستدين من صديقه مبلغًا من المال من أجل الملابس.
وهكذا صار مدينًا لأمه وصديقه في غضون أسبوعَيْن فقط، لأن آلة السحب لم تُعطه أيّ مبلغ إذ أن حسابه "منشّف"، كما يقال. فأصبح يرتدي تلك القِطع التي تتماشى مع الذوق العام، لكنهُ خسر شعوره بالراحة. لقد كان على سجيته هادئ البال بالتيشرت والجينز. أما الآن وقد اشترى رضا الآخرين، خسر رضاه عن نفسه. فالملابس الجديدة تُصعّب حركته وتكتم أنفاسه ولا يستسيغها أصلًا، لكنها أعجبت الزُملاء! هذا هو المهمّ الآن، أليس كذلك؟ فكّر وقلّب هذا السؤال في رأسه وكُلّ الإجابات كانت: كلا ليس هذا هو المهمّ. لكن شباك نظرات التقدير المزيّف والتظاهُر المُترَف اصطادته وأسرته.
لعلّ راسكولينكوف بطل رواية "الجريمة والعقاب" لكاتبها دوستويفسكي، هو الأدرى بالمشاعر التي تعتمل في صدر صاحبنا. وقد عاش قصّة قد لا تبدو مُشابهة في الظاهر، لكنها في العُمق مُماثلة تمامًا. فقد أضحى راسكولينكوف عبدًا للعجوز المُرابية مُقابل فُتات من رهوناته لديها، يشتري بها بعض الحساء والخُبز. صحيح أن راسكولينكوف رهن معطفه وساعته وأشياء أخرى لتلبية حاجاته الأساسية للبقاء، أيّ الطعام والمسكن، لكن الشبه بينهما يكمن بوجود المُرابية في حياتهما. ذلك أن المُرابية العجوز تستغلّ حاجة كل من يمدّ يده إليها، وفي المقابل، وقع صاحبنا رهينة نظرة الآخر له.
فبطل رواية دوستويفسكي صال وجال في معركته مع المُرابية، قاوم وانزلق وقاتل وهُزم. كانت معركة تنتمي لعالم النفس أكثر من عالم المادة. ظاهرها واهم، لكنها في الجوهر معركة النفس البشرية بكلّ ما فيها من اعتبار وكبرياء أمام استعباد المُرابية لراسكولينكوف، تمامًا مثل استعباد "العلامة التجارية" لأيّ إنسان.
إن الحاجة المصطنعة لإرضاء الزُملاء دمّرت حياة صاحبنا. كُلّ يوم عندما يعود إلى المنزل، يرى تلك الملابس مُعلّقةً على يَد الباب ويتساءل كيف اقتناها. اقتناها بتجفيف مدّخرات أمّه الضئيلة، ومن صديقه الذي أخفى عنه السبب وبات يخاف من أن يُفسد ذلك العلاقة بينهما فتنقطع. بات يشعُر أنهُ عالقٌ في دوّامة مهلِكة. فهو حتّى عندما أمسكَ أوّل مُرتّب له، تبدّد فورًا، مثلما حصل لمُرتّب الشهر الثاني. صرف الأموال على تسديد الديون ومُلاحقة الصيحات التي تصدر من تجاويف كهوف الموضة. شهر بعد شهر… الساعة العصرية تشتبك مع الهاتف الذكي، والحذاء الصيفي مع ربطة العنق وما إلى هنالك… استعباد تلو استعباد حتّى صار صاحبنا بلا هيئة ولا لون ولا طعم. صار نسخة طِبق الأصل عن الآخرين. مُستنسَخٌ زميل مُستنسَخين. ضرب الشحوب حياته.
فهل تصل قصته إلى خواتيمها بـ "قتل المُرابية"؟
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة