فلنعود بعقارب الساعة إلى الوراء. إنهُ السابع من أكتوبر صباحًا، يا لهُ من يوم غير اعتيادي. لم يكُن ذاك السبت خروجًا طبيعيًا للعمل أو جلسة عادية على فنجان قهوة. لقد تسمّرنا أمام شاشات التلفزة والمقاطِع التي تصل إلى هواتفنا، استيقظنا على قوى ظلامية محتلّة تفرّ هاربة من قبضات أصحاب الأرض. في مشهد تحرري مهيب، استيقظنا على جمع صهيوني يركض هنا وهناك خوفًا من أن يطاله الطوفان، الذي حلّ وجرف فكرة الاحتلال، وضرب معها صورة المُستعمِر في بلادنا. لقد تسمّرنا فرحين كما لو أنهُ يوم ميلادٍ جديد، كما يفرح الطفل في نهاية العام الدراسي أو عندما يفتح هدية عيد ميلاده، فرحة أصيلة لا يُضاهيها شيء، عميقة في صُلب وعينا الذي يتوق طوال حياته للانعتاق من هذا التكدّس الضاري للظُلم.
وما إن بدأنا نستوعب حتى تسلل شبح الرعب إلى أذهاننا، قُلنا مُتأكدين ونحن نرى رهبة العمل البطولي ذاك، عظمته وكِبره: "لقد انوجعت إسرائيل وضُربَت في ذهنيتها، وسوف تستشرس ويجن جنونها، تضرب كثور هائج". ولم تُكذب الملعونة خبرًا، وما زالت إلى يوم كتابة هذا النص تضرب بوحشية عقرب انلسع.
إنها الحرب، أشدّ وسائل الحياة تهديمًا. وبينما تقوم هذه الآلة الملعونة بعملها المُعتاد على أكمل وجه تحت نافذة صاحبنا (أصرّ على عدم ذكر اسمه)، من خلال تدنيس كُلّ ما يسري بخفّة، لقاء استبداله بالثِقَل المُرافق لهذا الحدث المشؤوم، كان الرجل يتمدّد بوضعية سقوطٍ حُرّ على أرضية عارية على رغم برودتها الشديدة. وبتململ واضح، مد يده على مكبس الضوء… يا للعبث في طلب كهرباء في ظل الوضع الجحيمي الذي هو فيه. قطع خيط الصمت الموحش صوت عويل وجلجلة تسبب بها مرور سرب من الدبابات أمام المبنى المتهالك الذي يقطن فيه وحيدًا، بعد أن هرب جيرانه بالثياب التي عليهم إلى مناطق الأطراف، باستثناء أرملة في الطابق الأرضي قررت أن وجودها وموتها واحد.

يتوق لرؤية الناس والاختلاط معهم. يتوق لسماع صخب طلاب المدارس عند انتهاء اليوم وأصوات الباعة المتجولين. يُريد أن يتحسس أشعة الشمس وهي تتسرب إلى الطبقات الدنيا من لحمه. لكن التجوال يعني الموت. ملاقاة الشمس يعني ملاقاة القناصين الذين يترصدون دبيب كلّ حيّ يُقبل أمامهم. بانت في مخيلته الحرب وكأنها تمتد امتداد الأزل، وكأن يوم السادس من أكتوبر ما كان. كأن التجوّل والتبضّع والأكل والشرب كأفعال، تنتمي إلى حياة أخرى غير هذه. فقد اجتازت قوات العدو الحدود، ولم يعد ثمة ممتلكات غير معرضة للنهب، أو بيوت غير معرضة للتدنيس، متاجر تُقتحم وجثث تُرمى على الأرصفة، كلّ حيّ وجماد شاهد على ثلة مسعورة مرّت من هناك.

شعر وهو على تلك الأرضية أن جنود العدو يدوسون عليه وعلى كرامته بنعالهم الغليظة. عقله يتداعى نتيجة انعدام الفهم، مثلما انهار أحد المباني قبالة نافذته نتيجة هجوم جوي نفذته طائرات العدو. وصادفت رؤيته الحدث بعينيه تمامًا حيث كان، قبل اندلاع هذه الحرب، يصدّق فقط ما يراه لا ما يسمعه. وما زال مخلصًا لهذا المبدأ، على رغم أن لا مبادئ في الحرب: لا أهمية لفلسفتك في الحياة، كلّ أفكارك ونظرياتك تُسحل في الميدان، عندما ينطلق ذلك البوق المشؤوم الذي يُعلن بشكل واضح أنه من الآن فصاعدًا لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص والصواريخ.

آخر ما رآه قبل أن تهتز الدنيا كلها أمام عينيه وتميد الأرض من تحته، كان رجلًا بساق واحدة يمشي وسط الشارع. صرخ به قلقًا: "أهرب وإلا قتلوك". فردّ عليه الرجل بزفرة ساخرة من كل العبث الذي يحيط به، وقال: "سيكون من الأفضل لو فعلوا، أريد اللحاق بابنتي". وكان له ما أراد.

المكان يعبق برائحة تخرق الرأس وتوجعه لجثث متحللة. وبعدما فقد الأمل من وجود كهرباء، أتت بغتة وصدح صوت حفل غنائي معروض على التلفاز بمناسبة السنة الجديدة. نحيب يملأ لحظات صمت يتركها الفنان ليرتاح. يُبررون ذلك بقولهم إن الحياة لا تقف لتسأل عن رضانا، تستمرّ، تمضي، بغض النظر عنا وعن رغبتنا بالتوقف او حتى عجزنا عن المضي قدمًا. هذا يحدث، هذه حقيقة، لكنه لن يتقبل الأمر ولا يريد أن يتقبله.

ما الذي تفعله الحيوانات البرية في المدينة؟ علق الأسد لافتة كتب عليها: "البقاء للأشرس". أنزلها الغزال وصعد ليسكن برجًا وسط المدينة بينما ثور ينطح أسفل المبنى ليوقعه. شيء من هذا العبث المريض من عالم الاحلام، يحدث على أرض الواقع خلال الحرب.

وتعبيرًا عن رفضه تدثّر بمعطفه السميك وخرج يقف في منتصف الشارع. لا حركة ولا صوت. غبار ولا شيء سوى غبار كثيف يغطي المكان. صرخ بأعلى صوته، بكل ما يملك من قوة: "آن لنا أن نستريح". وبينما هو ماض في طريقه الممحية نحو اللا-وجهة، صرخ جندي بالعبرية من خلفه مصوبًا سلاحه نحوه: "عد إلى بيتك الآن. ممنوع أن تكون هنا". ابتسم ساخرًا، وبعد برهة من الصمت قال: "ما زلتَ تستطيع التفريق بين المسموح وغير المسموح؟ هل تركتَ بيتًا تعود إليه أصلًا؟". لقّم العدو سلاحه، واحد، اثنان، ثلاثة، ثم خرجت الرصاصة من فوّهة السلاح وأردت صاحبنا وسط الشارع، ومضى الجُندي في سبيله.

في غزة اليوم، يُطرح السؤال بوجه العالم أجمع، بعد أن عَلَف وسمّن كيانًا كمن يُسمّّن ثور. ثور هائج مجهّز بأحدث تكنولوجيا عسكرية، يصب جام سعَرَه على الأطفال والأمهات والشيوخ: هل الموت أكثر راحة لك من أن تُحْسَب حيًّا على البشرية؟ أليس من العار اليوم أن تكون انسانًا محسوبًا على الصمت والخذلان؟

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button