لا أذكُر سوى رأسي المحشور بين حدود المَلزمَة وهو يُقلّم أطراف قَدميّ ويَديّ ويهذّب تعرُّجات جسدي، لأكون نسخة مُطابقة تمامًا لزُملائي الدُمى. وضعني على الرفّ، بعد أن حفَر على جسدي رقمي، وكان: الدُمية 76. رائحة المواد الحافِظة تسدّ مجرى التنفُّس، غُبار الطِلاء ونشارة الخشب يُغشيان بصري. ومع ذلك، استطعت الإحساس بوجود رِفاقي معي، الكتفٍ على الكتف، محشوّين بالفراغ والضوء يضربُ أسنان صانعنا الصفراء، وهو يسخَر ممّا صِرنا عليه. وعلى وجهه سمات الفخر المُطلق بما صنعت يداه.
ما هي إلّا دقائق قليلة حتّى لمحنا تلك الأسنان وقد بدأت تتحرّك، ثمّ ما هي إلّا ثوانٍ حتّى استطاع الصوت أن يخترق ذلك الجدار الشمعيّ الذي صبّهُ في آذاننا. راح يسردُ حدثًا وراء حدث، قِصّة وراء قِصّة، خبرًا وراء خبر، وكُلّ ما كان يُمكننا الإحساس به لم يكن أكثر من وخز إبر في رؤوسنا التي سُرعان ما تثاقلت وما عادت خشبيةً خاويةً. شعرنا فقط بحياكة القِصص فيها. سرد لنا أحداثًا تاريخية وكيف أثّرت بدورها على وضعنا الحالي، تحدّث بنبرة الواعظ العارف خفايا الأمور والمؤامرات. استفاض في تعداد ما يعتقد أنّها حقائق ووضع قائمة أُخرى بما يعتقد أنّها أكاذيب. وبعد وقت والكثير من الخيطان ونشارة الخشب التي تمنع وصول أيّ فكرة من خارج يَدَيْه، تشكّلت داخل رؤوسنا أدمغة، بلون وصبغة اختارهما هو، مثلما اختار شكلها ومظهرها وحجمها ووزنها.
كُنّا شهودًا على عملية صُنعنا، من الألف إلى الياء. كُنا شهودًا على كُلّ ما حدث بالنيابة عنّا. لكن صانعنا عندما اعتلى المنصّة ليُكاشف جماهيره، قال إننا نحن من اخترنا أن نُشكَّل على هذه الصورة. نحن من اخترنا أيدينا، وأرجلنا وشكل رؤوسنا وظهورنا. واستطاع أن يُقنع جُماهيره - التي لا نعرفها - بهذه الحقيقة كما أسماها. وأحسستُ بأنّ دُمى كثيرة أخرى صدّقته واقتنعت بكلامه.
رابضون جامدون في أماكننا، وكُلّ ما حولنا يتحرّك: البشر، الحيوانات والأجرام الكونية. حتّى الشجر في الخارج يتحرّك ونحن ساكنون تمامًا. تمرّ دقيقة بعد أخرى، ثانية بعد ثانية، وعمليات الحفر والتشبيك في رؤوسنا تكاد لا تتوقّف، يعملون كحفّارين يريدون الوصول إلى نواة الأرض. عرَضَنا للبيع والشراء في سوق حقائق العالم، أقام على شرفنا مزادًا وخاض مُفاوضات وأبرم اتفاقيات على شرف استهلاكنا.
انتهت نشرة الأخبار، أطفأوا التلفاز فعُدنا لننخرط في نظام الحركة المعهود، كبشر ولكنْ، بغير البُنية والدماغ الذي كُنّا عليه قبل ذلك. وفي صباح اليوم التالي، صدرت الصُحف. ذكروا اسمه الثُلاثي ومكان إقامته والسنة التي ولد فيها، واسمي والده ووالدته ومسقط رأسه، وخبرته المهنية وقصصًا من طفولته، وأنّهُ - حفّار أدمغتنا - نجح في صناعة 85 دُمية في ليلة واحدة، وهو رقم قياسي لم ينجح في بلوغه أحد قبله. وضعوا صورته على الغلاف بالحجم الكامل ورقمنا بالخط الكبير إلى جانبه. راح يستلم جائزة وراء جائزة، والناس من كُلّ حدبٍ وصوب أتت تُطالبه بتوقيعه.
ليس صانعنا وحيدًا، وليس خالقًا أو إلهًا، إنهُ بدوره مصنوع على يد أحد الصانعين الآخرين. والعالميسير على هذا النحو دائمًا، صانعون مصنوعون في المُختبر الكبير الذي نحيا فيه. لم يُرِد لنا أن نكون مُجرّد دُمى بطبيعة الحال، بل أراد ذلك وقد طالبوه بصُنع عابدين للوثن الذي يعمل تحت إمرته، لكي نكون نحن من نتحرّك بعد ذلك للتبشير بإلهه، أن نسير هائمين على وجوهنا في الأزقة والشوارع والطُرقات، ونطرق أبواب البيوت، لننشر عبادة هذا الوثن. أراد لنا أن نكون أتباعه وننتشر في العالم وننجب لهُ أتباعًا آخرين.
إن ما يحدُث في العالم أجمع، طوال الوقت، في جميع العصور، يقسّم كُلّ شيء بين من يُسلَّط عليهم الضوء والخبر والاهتمام وبين من يُدان برقمه. لقد عُرّف عنّي برقمي، مثل ضحايا الانقلابات والحروب ومراكب الهروب. لم يسمع قصّتي أحد، لم يهتمّ أحد بمسقط رأسي أو باسمي والدي ووالدتي ولا حتى باسمي. ظلّ رقمي، الدُمية 76، مُعلّقًا في قصص هذا العالم الكثيرة التي تسير كالمحادل التي ترصّ زفت الشارع على الأرضية. فبعد أن نصَب الفِخاخ في رؤوسنا على شكل أدمغة، سمحَ لنا أخيرًا بأن نلتحق بركب المُتحرّكين. ومن لم يتحرّك عند نهاية الاحتفالات، أصبح في عِداد المُتخاذلين الخائنين.
أذكُر حادثة أخيرة، قبل أن تقطع فأسهُ خشب جسدي، عندما انتهت مهمّتي. بعد سنتين بالضبط، لوحِق كُلّ من الدُمية 9 و17 و53 في أحد الأزقّة وقُتلوا لأنهم، ويا لسوء ما ارتكبوه، فكّروا خارج العلبة التي صنعها داخل رؤوسهم بالنيابة عنهم. كان ليلٌ والقمرٍ بدرٌ وضباب خفيف، التفتوا بعد همسٍ بأفكارٍ جديدة إلى الخلف فيما فأس صانعنا تستعدّ لقطع رؤوسهم، فغاب نجمهم قبل أن يُفكّروا برد فعل. وبطبيعة الحال، في اليوم التالي ذُكرت أرقامهم في الصفحة الأخيرة، تحت عنوان: "أضرار جانبية، من أجل القضية الكُبرى".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة