"لا نشعر بالوحدة بسبب عدم وجود أشخاص من حولنا، بل نتيجة عدم قدرتنا على التواصل معهم حول الأمور المُهمّة بالنسبة لنا". – كارل يونغ.
هنا تجتمع كُل المُتناقضات، حصّالة أيّامك، تاريخك كلّه. المكان الذي تستريح فيه وتتعَب. تتحرّر فيه من ملابسك وتتقيّد بالروابط. تأمن فيه على نومك وترتعب إذا مسّ أحدهم السوء. مكان يُشبه الشارع في حين والرحم في حينٍ آخر. فيه طفت على السطح مُعظم أخطائك وقمّة إحسانك. فيه تنهار وفيه تجمَعُ شتاتك. إنهُ المكان حيث تنفجر غضبًا وحنقًا وتختنق نحيبًا وقهرًا وتضحك فرحًا وانتصارًا، إنهُ كُلّ الأمكنة واللامكان في الوقت عينه.
لذلك، كان من الصعب عليكَ أن تشعُرَ بهذه الغُربة وسط أفراد عائلتك، فأنت عرفتَ طوال حياتكَ أن مُرادف الانتماء هو العائلة. فتلك الأواصر التي ينشأ عليها المرء، أيّ منشأ أفكاره وطباعه والكلمات الأولى التي قفزت من فمه ترجع إلى هُناك، بين جُدران هذا البيت حيث ترعرع. هُم الأشخاص الذين أمسكوا بيَدك كيّ تمشي خطواتك الأولى وحملوك عندما وقعت من على صهوة دراجتك الهوائية.
العائلة أربع حيطان من أمان، هي الدفئ والطعام والملبس والإرتواء، هذا ما تعلّمتَه وعليه تأسست، هذا ما صدّقته وآمنت به وعبدته، وهذا بالفعل ما عشتَهُ لسنين طوال… لا نستطِع إنكار الأمر. ذلك المبنى مُشيّد من عادات وتقاليد تخصّ عائلتك، وأنت التزمت بالعيش فيه. ترعرعت في بيوت هذه العِمارة بيتًا بيتًا، وأمِنت في كُلّ الغُرف، وأنت بذلك حافظت على مصادر الطمأنينة.
في ذلك اليوم المشؤوم، وفي ليلة كنتَ تتحضّر لها شيئًا فشيئًا، تهدّم ذلك المبنى في رأسك دفعةً واحدة، وما عاد المكوث في أي من تلك البيوت آمنًا لك. أين ما حملت حقائبك وارتحلتَ وجدتَ اغترابًا يُحاصرك من كُلّ حدبٍ وصوب. كيف يتحوّل فجأة من كان بالأمس الأمان بعينه إلى خوفٍ وريبة؟ كيف يُصبح المكان لامكان في آن معاً؟ وإذا صار المكوث صعبًا والترحال مُستحيلاً، أين تذهب؟ لن تنجو مهما رحلت، تستطيع الخروج من العائلة لكن من المستحيل أن تخرج العائلة منك.
تهدّم المبنى بإيعاز من جرافات الزمن الذي يُبدل الفكر من حال إلى حال. أنت لم تتخلَّ عن احترامك لعائلتك، كُلّ ما في الأمر أن بعض العادات والتقاليد ما عادت تُناسب الطُرقات الفكرية التي سلكتَها. وفي رحلة الهجران والتيه في صحراء السؤال والجواب، أصابك الجوع والعطش وحُرمتَ من النوم. كيف لهؤلاء، وهم الإنتماء بعينه، أن يُصبِحوا اغترابًا. كيف لمن كانوا رمزًا للأمان أن يمسوا خوفًا يُضاعِف رحلة الإغتراب.
لا شك أن العائلة تعتبر أبنائها مُلكية خاصة، وتلك المُلكية عليها أن تتطبّع طوال حياتها بعادات عائلتها ومُنطلقاتها الفكرية، وكأيّ حزب أو جماعة تجد الأخيرة في أيّ عصيان أو شتات عن الطريق المرسوم مُسبقّا تمرّد لا تسامح معهُ، والعاصي بذلك يُشكّل تهديدًا وجُب عزله.
هكذا عرفتَ شعور أن تُعزل وأنت في غرفة نومك. أن تصبح غرف المنزل سجونًا متراصّة، وأن تجد نفسك وحيدًا مهجورًا كجُثة مرمية على قارعة الطريق، وإلى جانبك… أمك وأباك وأخوتك، ليمتدّ الهجران إلى العائلة الكبيرة، والأكبر منها، والأكبر.
شعرتَُ كما لو أنك خرقةً باليةً، صرتَ بلا مأوى. صرعَكَ المرض والوِحشة، جلدت ذاتكَ في كلّ لحظة وقفت فيها أمام نفسك، وصارت نظرات أهل الدار سياطًا تلسع وتنهش العظم. وفي حضرة الأفكار التي ما عدت تنتمي إليها، بحثتَ عن فَتات انتماء تسدّ جوعك بها، لكنك لم تجدها. أصبحت تجلس وحيدًا في ذاك الرُكن المُخصص لغُرباء الاطوار.
أردت في نفس الوقت أن تبقى في مكانِكَ المعتاد مع أحبّتك وأن تشيّد عالمك الخاص حيث تغوص بأفكارك بحُرية إلى حدٍ ما. أردتَ أن تعيش بين ما تتحمّل قبوله وبين ما لا يُمكن بأي حالٍ من الأحوال العيش معه، أن تحيا من دون تدخّل هيئة الرقابة ومحاكم التفتيش العائلية. العائلة لا ذنب لها هي أيضًا، فهي فريسة هذا المرض الذي يهدم المبنى، أورثته من جيلٍ إلى جيل كيّ تبقى هوّة اللا انتماء حيّة وجرح الاغتراب مفتوحًا.
*
الصورة لـ مهدي عواضة
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة