إنّك لتجزع وترتعب وتنهار إذا ما فتحت الباب لتدخُل أخيرًا فتجد نفسك صرت في الخارج. من منّا يُحبّ أن يجد حياته معروضة للتداول والبحث والتدقيق والنشر وأن تكون عُرضة للمثول أمام محكمة روّاد مواقع التواصل الإجتماعي التي لا ترحم؟ هذا ما يُمثّله تسجيل الدخول إليها الذي يُعتبر خروجًا إلى المذبحة الجماعية التي أُقيمت على شرفنا جميعًا.
إنهُ عام 2027. اجتمعت كلّ الأسباب في محيطه، فدخل "سامر" إلى عالم الميتافيرز. دخول من انزلقت قدمه عن الحافة فوجد نفسه في قاع الوادي. لكنهُ بطبيعة الحال في بداية دخوله لم يكُن يتوقّع حدوث ما حدث، شأنهُ شأن كّلّ من فتنته التكنولوجيا في كُلّ العصور، فأراد اللحاق بها ولم يُدرك أنها تأخذ في مقابل ما تُعطيه، وفي الكثير من الأحيان تأخذ أكثر.
إن تفاصيل أو أسباب الدخول ليست بالمهمة للحديث عنها، تجريب شيء جديد أو اتّباع الموضة أو جني العائد المعنوي من الظهور، من يدري؟ تفاصيل لا حاجة لنا بها. لكن تشكيل هوية جديدة لسامر هي محور اهتمامنا. ففي عالم الميتافيرز، على سامر أن يختار طبيعة مظهره الخارجي في البداية، وهو غير الراضي عن بعض تفاصيل جسده فتلاعب ببعضها لتتغيّر. اختار أن يكون أطول قامةً بحوالي عشر سنتيمترات، شعره أكثر كستنائية مع زيادة بسيطة في الطول لم يستطِع الصبر عليها في حياته الحقيقية، وعَينان أكثر اتّساعًا. أما في ما خصّ الملابس، فاختار أفضل ما يسمح هذا العالم الموازي به، أغلاها سعرًا مع سيّارة من الطراز الجديد، ما يعني مرّة أُخرى انعكاس مُغاير لحياته الواقعية: ملابسه المتواضعة وسيارته التي اشتراها بالتقسيط المُريح.
في ما خصّ أفعاله وردّات فعله، كان دائمًا يتّبع طريق الحكمة في حلّ الأمور أو التعبير عن أفكاره، فظهر ظهور الرصين الذي لا يغضب على كُلّ شاردة وواردة، مع أنهُ في ذات اليوم يُمكنه أن يُقاطع صديقًا أو يعمد إلى تكسير أغراض البيت كُلّما عنّ على باله نقل مشاكله الخارجية في العمل والشارع إلى أهل بيته، لينفجر غضبًا عليهم. وفي ما خصّ الأفكار، اختار الأكثر انفتاحًا وتسامحًا كذلك، ونافق الكثير ليكسب رضاهم في عالمه الموازي من أجل حصد الإعجابات والمميزات التي يوزّعها روّاد هذا الثقب الأسود بعضهم على بعض.
ويومًا بعد يوم، وغرق تلو غرق، صار يقضي معظم يومه في العالم الذي صنعه، والدوبامين صار يُفرز بكميات مهولة تجعله أكثر الراضين عن أنفسهم، كمن يوزّع الأزهار تحت القصف. عالمه الموازي مبني بالشكل الأحبّ إلى قلبه وعالمه الفعلي مُدمّر كأنّ آلة حرب مرّت عليه.
ذات أربعاء، طرأ عطلٌ على شبكة الاتصالات العامة في البلاد فانقطع الإنترنت بشكل عمومي. باغت هذا الحدث سامر، مع أن حدوثه في أوقات سابقة كان طبيعيًا. وبعدما باءت مُحاولة تلو أُخرى بالفشل لاستعادة الإتّصال، تمترس صاحبنا أمام المرآة لبعض الوقت، هذا الشعر الطويل غير المُصفف بأيّ حال من الأحوال من أين جاء؟ سأل نفسه. مع زيادة ملحوظة في الوزن والكثير من الخراب عند العَينين… فصار غريبًا عن نفسه. خرج إلى الشارع بعد مُحاولة أخيرة، باءت أيضًا بالفشل، للولوج إلى شبكة الإنترنت من أجل التشابك من جديد مع عالمه الذي بناه بعناية، وعمد فيه على تربية صداقات وحلّ صِعاب الأمور، كإنهاء الحروب والمجاعات في العالم وما إلى ذلك، علمًا أنه عاجز عن تغيير الأثاث المهترئ في المنزل حيث لا يوجد كُرسي.
خرج ولم يخرج. كان خروجه إلى العالم الحقيقي، للمرّة الأولى بهذه الكثافة منذ أشهُر، كمن يخرُج من عالم الأحلام الهانئة إلى ضربات الواقع الذي يحمل الهراوة في يده ولا يُفلتها. زحمة خانقة، زمامير سيارات، صرخات الباعة المُتجوّلين، أحاديث تقفز من شُرفة إلى شُرفة كالخفافيش، والسياسي المفوّه يصرُخ من مذياع المقهى الذي احتلت مقاعده نصف الطريق: "سنفنيهم عن بكرة أبيهم. لن تنتهي الحرب إلّا بانتصارنا…". كُلّ ذلك التذوّق السمعي، بالإضافة إلى حاسة الشم التي اختنقت من روائح الوقود المُحترق… جعلت سامر فريسة إنهيارٍ عصبيّ. وضع كِلتا يديه على أذنيه ورأسه، وأخذ يرتجف وارتفعت حرارته، ثم راح يصرُخ بكلمات مُتقطّعة وغير مُترابطة في الكثير من الأحيان: "أيُّها العالم. الحقيقة. ما هذا؟ توقّفوا عن الحركة. اكتموا الصوت. شغّل التلفاز. أطفئ المذياع. دمّر العالم أّريد بنائه من العدم".
صراعٌ بين عالم الحقيقة وعالم الخيال أعياه. داخل رأسه المسكين حيث تداخلت العوالم بعضها ببعض: جنّة فيها ما لذّ وطاب تحترق فيها الجثث جرّاء القصف المدفعي. انعدمت كُليًا قُدرته على الفصل بين ما يُمكنه اختباره مُستخدمًا حواسه الخمس وبين موجودات عالمه الذي صنعه في عالم السوشال ميديا. إنهُ كشعور المرء الذي ينظر إلى باطن يده ولا يجدها، أو يجد محلها يَد دُمية هُلامية.
آلاف الصور والخيالات هاجمته قبل أن يستيقظ من نوبته العصبية، زرافة تطير، فيل يُغنّي، عصفور يمشي على عُكاز. وجد نفسهُ في البيت على السرير، أمّه إلى جانبه وأخوه الصغير همس في أذنه: "عاد الإنترنت". شغّل الحاسوب، أعاد الإتصال فهدأت فرائصه. وكمدمن مخدرات تناول جرعته، عاد كُلّ شيء في عالمه إلى نصابه. وفي انتظار الانقطاع الثاني، ليت دائرته المُقرّبة تتعامل معه في شكل مُغاير، كأن يُساعد الأهل ومن بقي من أصدقاء على تحمّل أعراض الإنسحاب لعلّه يُشفى.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة