إيكاروس، في الأسطورة الإغريقية، هو الشاب الذي حلّق قريباً من الشمس بجناحين من ريش وشمع. ذاب الشمع بفعل حرارتها الآتونية فهوى الشاب في البحر ومات غرقاً.
وكان إيكاروس وأبوه المهندس المعمار ديدالوس الأَثِينِي سجينين داخل متاهة هائلة لا يخرج منها عاقل ولا بهيم، شيّدها الأب نفسه بأمر من ملك كريت مينوس. وبعد أن اكتشف هذا الأخير خيانة ديدالوس له، رمى به مع ابنه إيكاروس في المتاهة، فعلقا هناك.
ورغم استحالة الفرار من ذلك المكان الرهيب، نجح الأب العبقري في تجهيز أجنحة من ريش وشمع، وطارا بواسطتها فوق المتاهة واستطاعا النفاذ. وكان الأبُ أوصى ابنَه بأن لا يحلّق قريباً من الشمس ولا قريباً من سطح البحر، وإلاّ فنى. وهذا ما حصل.
كثيرون تناولوا أسطورة إيكاروس كل بحسب اختصاصه: فنانون تشكيليون، شعراء، أدباء، روائيين، فلاسفة… وهناك أيضاً علماء نفس ومنهم من نحت "عقدة إيكاروس"، لدراسة الشخصية المفرطة في الطموح وأسباب فشل الشاب المراهق في بلوغ سن الرشد وقلّة إدراكه لأخطار استخدام القوة.
وأثنى على العقدة إياها اقتصاديون بعضهم نعت الشاب المجنّح بالعجرفة وبعضهم الآخر بالسذاجة، ثم أضاف الطرفان إياهما ميزة الإفراط في الثقة بالذات، فحكموا على الشاب بأن يدفع ثمن تهوّره وعدم احتسابه المخاطر. هم أنفسهم الاقتصاديون داعمو رجال الأعمال الذين يشجّعون الموظف على "الإبداع" بالقول "حدودك السماء"، ويعنون به أن لا حدود لكن فقط أمام من يدرّ عليهم الأرباح… مسكين إيكاروس لم يجنِ سوى موته!
الذين شرّحوا إيكاروس انطلقوا فقط من أنه لم يصغِ إلى نصيحة أبيه فمات، وفاتهم أن الشاب استغل أول سانحة لكي يفر من واقعه:
- إيكاروس. شخصية هامشية تعيش في ظل الأب. ولكنها سطعت وشكّل اسمها عنوانَ الأسطورة لأنها في لحظة تجلٍ خالفت وبلغت ذروتها ثم ما لبثت أن أفَلَت وهي في أوج بذلها.
- ديدالوس. أبو إيكاروس، نابغة صحيح ولكنه هو من شيّد المتاهة - السجن مطيعاً الملك الظالم. وهو الذي خان هذا الملك الظالم فجرّ ابنه إيكاروس معه إلى السجن، وتالياً إلى بؤسه قبل أن ينتشله منه ثم يتسبب بموته.
- المتاهة. بناء خيالي أو تعقيد فكري رهيب يذْكِي في البشر رغبة البحث والفرار.
وفي عصر العولمة، راحت المتاهة تتوسّع وتتّخذ أشكالاً مختلفة وماكرة، من شأنها تعزيز قدرتها على الأسْر. كما اكتسبت ذكاءً حاداً إلى درجة أنها ترافق الفارّ خلال فراره وتحلّ معه حيث يحط رحاله ليجد نفسه عالقاُ من جديد.
وإيكاروس بصعوده إلى حيث لم تصل مركباتنا الفضائية ولا حتى في الأفلام، كان يحاول أن يكتشف ضخامة المتاهة ويتأمّل تعقيدها، سببا فراره. وبموته - وحده من دون أن يتسبب بالأذى لأحد - حذّرنا من أن المتاهة قَدَرُنا.
وفي أسطورته، تجتمع كل مواصفات المُهاجر العادي: هامشي بائس مقيم في متاهة. والمُهاجِر أيضاً هو كل امرئ يعجز عن البقاء بدليل بحثه المتواصل عن منفذ، متى وجده شرع في تأمين الأجنحة.
وعلى عكسه، لا يكترث المستقِرّ الثابث للمنافذ، فالهجرة بالنسبة إليه هي بحث دائم عن أسباب البقاء. وبهذا المعنى، أسباب البقاء تساوي بين المُهاجِر والمستقِر، لكن الأول يكون فقدها والثاني وجدها. ترى ما الذي يحصل إذا الأول وجد أسباب بقائه والثاني فقدها؟
وكل ذلك لا يتعلّق مباشرة بـ "المكان"، بما يسمّى وطن أو مهجر. كلاهما أرض ولا مفر للبشر من مبارحتها. أحدهما يقيم في أرض أليفة والآخر في أرض غريبة قد تصبح أليفة إذا تخلّص من شِرك المتاهة ووجد أسباب بقائه في الغربة.
هم ليسوا إيكاروس ليهاجروا إلى الشمس ويموتوا في البحر. هم لا يتمتّعون بهذا الترف من الخيارات. أصلاً، هم لا يجرؤون على اتخاذ قرار الذهاب إلى الشمس لأنهم يعلمون أنها تحرقهم، تذيب أجنحتهم. لعلّهم تعلّموا ذلك من إيكاروس… مسكين إيكاروس!
وهنا يبرز وجه شبه جديد بين الشاب الإغريقي الخيالي الجريء والمُهاجِر العادي، ويكمن هذا الشبه في ذوبان الأجنحة. الذوبان. نوع من ذوبان العقلية والثقافة وأمور أخرى، يكون مطلوباً من المهاجر لكي يكتسب عقلية جديدة تساعده على الانحلال في المجتمع الغريب. وقبل قدوم الاتصالات السريعة والآنية، كان الحنين إلى الوطن الأصلي مع الشجن في قلب المُهاجر يشكلان معياراً لتقبّله الـ "جديد" أو مقاومته، وأيضاً معياراً لتأثير المهاجر إياه في مجتمع الغربة.
وقد يتعرّض المستقر نفسه، في وطنه الأصلي، لعملية تقبّل ورفض وتأثير، وفقاً لتغيّر الظروف التي تحلّ على وطنه والأحداث التي تحصل فيه إلى درجة أنه قد يحسب نفسه "غريباً في وطنه" وهو شعور مرير يرغمه على البحث عن أسباب البقاء أو أسباب الرحيل، فيقع في متاهة.
تغيّرت الهجرة كثيراً: لم تعد الأمكنة المضيفة تنصب متاهات متشددة تحقيقاً لمستوى عالٍ من الإندماج، وتركت للمهاجرين إليها مهمة نصب متاهاتهم الخاصة كنماذج مصغّرة عن الأمكنة التي قدموا منها. وفي طليعتها "تشاينا تاون" تلتها "ليتل إيتالي" وكرّت السبحة. فبات المُهاجِر يترك وطنه الأصلي ليصل إلى وطن مقلّد، يصنع فيه أكله وشربه ويحكي لغته ويكتبها وهو الأمر الذي يميّع عملية الإندماج مع المجتمع المضيف. وحدها المهارات الوضيعة الوافدة تجد لنفسها حيزّا في قلب المجتمع المضيف.
أما الطعام الوافد فيشكّل الوسيلة الرئيسة للتعارف وانفتاح المضيف على المُهاجر. غير أن الثقافات والعوائد الوافدة تبقى مركونة في تلك المواطن المقلّدة، وتمسي طقوساً يمارسها المهاجرون لاستحضار الأصل كلّما غلبهم الشجن.
وحتى الشجن أخذ يتلاشى بفضل تكنولوجيا الاتصالات، وراحت اللغات الوافدة تلعلع في شوارع المغتربات وباصاتها وساحاتها وتوفّر التواصل ما بين الناطقين بها في كل أصقاع الأرض ومنها الوطن الأصلي. وكأن المهاجرين يدعون أترابهم إلى مشاوير في شوارع غربتهم للمؤانسة واستكمال حياة انقطعوا عنها. وبالمثل، عندما يزور المقيمون في البلد الأصلي ذويهم في المهجر عبر اتصال فيديو يغدون مهاجرين عن بُعد.
تغيّرت الأحوال كثيراً عما كانت عليه في زمن إيكاروس: الأجنحة لم تعد ضرورية والذوبان لم يعد شرطاً صارماً للانخراط والاندماج والمتاهات باتت منخورة ولم تعد منيعة وسدودة إلاّ على صنف من المهاجرين يطلقون عليهم صفة "غير الشرعيين".
هؤلاء هم أقرب إلى إيكاروس في اندفاعهم نحو المهجر أي مهجر، حيث يأملون أن يكون خلاصهم. يطلعون من بلدانهم كقطعان جامحة هرباً من متاهاتهم الخانقة والقاتلة، يعبرون اليابسة ليصلوا إلى البحر. وبدلاً من الأجنحة، يمتطون القوارب مرتدين سراويل جينز وأحذية سنيكرز وينطلقون بكل تهوّر، مثل إيكاروس، نحو شمسهم.
وهذه الشمس لا تحرق، ولفرط برودتها تلمّهم لتزربهم وتمنعهم من التجول في أرجائها العدائية، ثم لا تلبث أن تعيدهم إلى المربع الأول، بسراويل جينز وأحذية سنيكرز. أحياناً، تكون متاهة البحر نهمة فتبتلعهم ويموتون غرقاً. بعد مضي كل تلك القرون على الأسطورة، تعطينا الهجرة بالقوارب فكرة عمّا كان حلّ بإيكاروس لو حلّق قريباً من سطح البحر… غرق بغرق!
عندما تنتقل الطيور المهاجرة إلى مراعيها صيفاً أو شتاءً تكون عائدةً إلى الموطن الأصلي أم ذاهبة إلى المهجر؟ الطيور ليست ملكاً لأحد. الهجرة عجز عن البقاء في أي مكان.
الرسم لـ: أبراهام فان ديبنبيك
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة