"فتنا باللّعبة"، تمامًا كأطفالٍ، أو ربما كرجالٍ صغارٍ، يَعْبَثونَ بالثّقافةِ السّائدةِ، كما عَبَثَ "السّينيكال" بلفظِ العبثِ وأشاعَه كما لو كانَ حدثًا يزاملُ انسيابَ الزّمنِ كما تفترِضُه إبستمولوجيا الحاضر. اللّعبةُ هنا تنطلقُ من فلسفةٍ معيّنةٍ، واضحةِ الملامحِ بخلافِ هويّةِ الانسانِ المعاصرِ الّتي تطرّقنا إليها في العددِ السابق. اللعبةُ هنا لا تتأطَّرُ بالسّلبِ، لا ترسُمُ قواعدَها عبرَ التّحرّرِ ممّا تَنْفيهِ بل يكونُ النّفيُ محضَ رفضٍ لمحدّداتِها الّتي تخلقُها لنفسِها، وليس ما نخلقُه لها، فيكونُ الإطارُ مُشَكَّلًا لذاتِهِ بحسبِ متطلّباتِ السّائدِ الّتي تصوغُ ما ينبغي أن يُقال.
الكتابةُ في هذه اللعبةِ، وضمنَ حدودِها، أقربُ إلى القراءة. ومن هنا يبدأ العبث. ويتمثّلُ أوّلَ تمثّلٍ بتماهي القراءةِ والكتابةِ، بل وقربِ الطرَفِ المقابل للفعلِ من الفعلِ نفسهِ، أكثرَ من قدرةِ الفعلِ على ملاقاةِ ذاته. فإذا كانت القراءةُ عندَ رولان بارت هي إعادةُ تكوينٍ وخلقٍ للنّصِّ، ضمنَ موضوعٍ يُفرضُ علينا ولا نختارُه، فالكتابةُ هنا، في عالمنا، جبريّةٌ أكثرَ من كونِها مساحةً للتعبيرِ الحُرّ. وفي عالمِ اليومِ، تسوقُكَ التّجربةُ للكتابةِ تحتَ ثيمةٍ محدّدةٍ، مضبوطة. وبالمناسبة، هذا ما نفعلُه تمامًا في الرّحلة. ولذلكَ تكونُ الكتابةُ، أقربَ للقراءةِ منها إلى الكتابةِ، أو قُلْ إنّها تمْتَثِلُ لمفهومٍ جديدٍ كلَّ الجدّةِ، وهو "القراءةُ كأسلوبٍ للتّعبيرِ الحرّ".
قد تكونُ اللّعبةُ هذهِ من تجلّياتِ التَمَثُّلِ لمخاضاتِ الحداثةِ والتّنوير. ذلك أنّ افتقارَ التّنويرِ للابداعِ، الّذي لا يمكنُ تحفيزُه بقراءةٍ تاريخيّةٍ يقظةٍ فقط، قَدَّمَ للنّقدِ والتّفكيكِ والخَلْخَلَةِ والتّقويضِ، والّتي هي مهامُّ من يتوخّى خوضَ اللعبةِ، مكانةً جوهريّة. نشأتْ هذهِ اللّعبةُ كسلوكٍ مُلِحٍّ، وممارسةٍ ضروريّةٍ، من أجلِ نقدِ المشهدِ الثّقافيِّ والسّياسيِّ الّذي أظهرَ عُقْمَ قُدْرتِهِ على التّغييرِ على امتدادِ العقودِ الماضيةِ، سيّما مشاهدُ الرّبيعِ العربيِّ الّتي سَجَنَتْ الرُّؤى التّفسيريّةَ للمشكلةِ العربيّةِ بينَ قضبانِ "الحاكمِ الأزمةِ" أو الطّاغية. وُلدتِ اللّعبةُ كي تُكافِحَ القراءاتِ العرجاءَ للواقع. والّتي وقعتْ في تَخَرُّصاتٍ جعلتْ من "إرحل" حلًّا للأزمةِ ومدخلًا للتّنوير. رحلَ الطّاغيةُ مبقيًا أدواتِ إعادةِ خَلْقِهِ، حيثُ لم يستطعِ المثقّفُ العربيُّ أن يُذوِّبَ التجربةَ السياسيّةَ المتحجّرةَ لأنّه فشلَ في إنجازِ ما يُسْعِفُ نظرتنا للثّقافةِ والسّياسة. تعودُ اللّعبةُ للظّهور. لعبةُ النّقدِ والتقويضِ هذهِ يمارِسُها الهواة. لا لرغبَتِهم بتشييدِ أنفسهم كمثقّفينَ جددٍ، بل للاستدارةِ نحوَ المثقّفِ العربيِّ، أو "المثقّفِ الأزمةِ" الّذي اخْتَزَلَ التّأويلَ في مقارباتٍ شَكْلانيّةٍ بعيدةٍ عن بُنْيَويّةِ المشكلةِ العربيّةِ، وكَشَفَ أقنِعَته الزّائفةَ، من أجلِ لَفْظِه من المشهدِ الثّقافيِّ كما يَلْفُظُ البحرُ سمكةً فتموتُ، بصفتِه من مُسَبِّباتِ تعميقِ المشكلةِ، وبالتّالي كونَه أجْدَرَ بِـ "إرحل".
أقرأُ اليومَ على الفايسبوك عندَ أحدِ الأصدقاءِ الشّعراءِ جملةً لرامبو "بعضُ الخرابِ يكونُ ضروريًّا". هذا هو العَبَثُ الّذي تَنْشُدُه اللّعبةُ، وهوَ شاعريٌّ، كالاقتباسِ المذكورِ، بقَدْرِ اكْتِنازِه لتأويلِ المشاهدِ الواقعيّة، دونَ مفارقات. وهذا ما يجعلُ من "الكريتيكال" لاعبًا محترفًا. ضرورةُ العبثِ هنا مُجْتَرَحَةٌ من ضرورةِ التفلُّتِ من المأساةِ الّتي تلاصقُ اليوميَّ، والّتي تُكَرِّسُها سذاجاتُ استيرادِ الشُّروحاتِ والتّفاسيرِ والحلولِ ممّن عَصَفَتْ بِهِم رياحُ التّنويرِ الّتي يمارسِها المثقّفُ العربيُّ من جهةٍ، وإدمانِ التَّمَرُّدِ من جهةٍ أخرى، حيثُ يصْبِحُ إدمانُه انتقامًا من التَّمَرُّدِ نفسِه عن طريقِ عبادَتِه. العَبَثُ، في الظّاهرِ، يكونُ تَخْريبًا، لكنَّ دلالاتِه وملاكاتِه تقودُ إلى الانتظام. كحممِ البراكينِ الّتي تَسْتَحيلُ سَمادا. اللّعبةُ هذهِ لا تَنْشُدُ "الما بعد"، درايةً بعدمِ حِيازَتِنا على اللّحظةِ الراهنة. إلّا أنّها لا تَعْتَصِرُ اللّحظةَ الرّاهِنَةَ في قدحِ الوثوقيّةِ الّتي زامَلَتْ ما قبلَ "الما بعد". وهكذا يأتي المثقّفُ العربيُّ مرّةً أخرى إلى الواجهة. أساسًا جسمُه "لبّيسٌ للنّقد". لأنَّ الوثوقيّةَ كانَتْ وما تزالُ أبرزَ سماتِه. وثوقيّةُ المثقّفِ العربيِّ جاءَتْ في غيرِ محلِّها. وثوقيّةٌ مصنوعةٌ على قياسِ التّجاربِ الغَيْرِيّةِ، نجاحها وفشلها، أو على قياسِ السّينما والرّواياتِ المفارِقَةِ للواقع. إذن، حلولٌ منسوخةٌ عن تجاربَ امْتثالِ مجتمعاتٍ – بُنْيَتُها بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن أنسجةِ العالمِ العربيِّ السّوسيولوجيّةِ – لمبادئِ التّنويِر، مَمْهورَةٍ بخَتْمِ الحقيقةِ كأنّها صَكُّ خلاصٍ إلهيٍّ، ومُؤَسْطَرَةٍ بشكلٍ ما. ثُمَّ لم يكتفِ المثقّفُ العربيُّ بذلكَ، بل جعلَ نفسَه واجهةً لأعمالِه ولم يتوارَ خلفَها، مُنَصِّبًا نفسَه محلَّ الحَدَثِ، لا فاعلًا فيه ومتفاعلًا معه. وهنا شَهِدَ التّاريخُ العربيُّ في ربيعِه، موتَ المثقّفِ، ليسَ إفساحًا للمجالِ أمامَ الطّبقاتِ التّحْتِيَّةِ للمشاركةِ في مهمَّتَي التّفسيرِ والتّأويلِ، بل ليتحَوَّلَ المثقّفُ نفسُه إلى "داعيةٍ"، بالمعنى التّجريحيِّ للكلمِة، يغلّفُ نفسَه بكثيرٍ من التّبجيل.
أنّ اللّعبةَ هذه وُلِدَتْ لغايتينِ جوهرَيّتينِ، الأولى أن توقظَ الثّقافةَ وتَزُجَّها في مساراتِها الصّحيحة. لأنّ الثّقافةَ الّتي تضربُ حجرَ الثّورةِ كي يتفجّرَ منه الماءُ، تشبهُ المرأةَ العاريةَ، لا تُؤوِّلُ نفسَها إذا لم تَكُنْ مُسْتَيْقِظَة. أمّا الثّانيةُ، فأنْ تقتلَ المثقّفَ الدّاعيةَ الّذي يشتهي لنفسِه الأبديّةَ مستخدمًا التّدجيلَ الثّقافيّ. لأنَّ الرّبيعَ، لن يَحُلَّ، قبلَ إجبارِهِ مرغمًا على الرَّحيل.
الصورة: صالون في موسكو في 1840، بوريس كوستودييف (1912
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة