أعرفُ صمتًا هاربًا من الصوتِ ليختبئ في صداه.
ما زلت أسمع هذا الصدى حتى اللحظة، كلّما سمعتُ صوتًا يناديني، يحدّثُني و يختبىءُ فيّ أحيانًا فأُلاحق الوجوه. لمن كان هذا الصوت؟
ترى، هل سأجمّع هذه الأصوات كلّها و أبيعها حين أمرّ بضائقة؟ لمن أبيعها؟ هل سأعيشُ بها إلى أن أموت فيأخذها الهواء من بعدي؟ كيف نستنشق الهواء المفعم بالصوت؟ كيف نسمع من أنوفنا فنتسمم؟ نموتُ إختناقًا؟ هل نكتبُ هذا الموت؟ أم هذا الإختناق؟
بإمكاننا أن نكون أكثر صراحة بعد موتنا، وأن نشعر بأننا نحيا للمرة الأولى خارج إطار المعايير التي قيّدت الهواء بنا، و مع ذلك نحظى بالقبول. لا فرق إن حققت المستحيل، أو حتى إن حققت شيئًا بسيطًا، لا أحد يرى.
ولكن بعد موتك، بإمكانك أن تكون بطلًا، قائدًا، فنانًا من دون تصفيق الجمهور، ومن دون الوقوف على الخشبة، فقط مع تخليك عن زاويتك الخاصة في مخيلة الوجود، حيث تغدو كل الزوايا رسمةً دائريّة، لا تستطيع الوقوف فيها، ولا النوم، بل السير إلى حدّ الدُوار، وعند إصابتك بالدوار سيُفتح لك بابٌ تدخل منه بحلّة مختلفة عن الباب الذي دخلته.
أكتب هذا الكلام في محاولة منّي لتفسير ما يحصل، او ربما لمواساة بصري و سمعي… ذلك ما يسبب لي متاعبَ كثيرة، و توقعًا بأن أُصاب بالصرع.
"ليس عاديًّا الّا تكون عاديًا" معادلةٌ شبيهةٌ تمامًا بقرينتها "عاديٌّ أن تكون لست عاديًا". لم يشغلني يوما هذا اللغز العقلي للموت والحياة، بل كانت تشغلني الأسماء الغريبة، الوجوه التي تنظر إليّ في الطريق، تضحك لي، لا تنظر أساسًا، ترمقني بنظراتٍ حادّة، تمشي بخطواتٍ ثقيلة، باردة، ثيابٍ داكنة، ملوّنة، تحمل أكياسًا سوداء، لا تحمل شيئًا، يدخنون السجائر، يرمونها أرضًا، لا يرمونها، يشتمون النظام، يخافون النظام، أصواتٌ خشنة، أصواتٌ خائفة، يجلسون كراكبين في المقعد الأمامي لتنطلق السيارة من الموقِف وفي الخلف ثلاثة ركاب، يشربون القهوة في أي مكان، ينامون بعد ظهر يوم الأحد، لا يجتمعون على الغداء، يستعيرون الألبسة للمناسبات، لا يهتمون للون الحذاء، يهدون العطر في الأعياد، يتابعون نشرة الأخبار، يقولون نعم، يغلقون التلفاز، ينامون في التاسعة، يشتمون بعضهم سرًا، يحبون بعضهم سرًا، لا تقتلهم الحياة بحادث سير مروّع، و لا بخطأ طبيّ فادح، لا بغرق مركب بحريّ، ولا بسقوط جسر أو انهيار مبنى، يموتون ببطء، يختنقون بالموت، فينفجر الصوت، وأبتلعه مع صوتي، كضريبةٍ لهذا الصمت.
أبتلعُ الأصوات فأبحثُ عنها، الرسائل ليس الكترونية فقط، ولا ورقية. تعذّبني هذه الرسائل، و تحرق لي مشاهد هذا النقص المثير للأسى، الحياة.
الصوت الأوّل، الرسالةُ الأولى:
كعجلةٍ في قطار، هكذا، أسيرُ وأسير. لا يتعرّف عليّ أحدٌ في الطريق. لا يوقفني الناس لالتقاط صورة، بل ليسألوني عن المقهى القابع في الشارع الخلفيّ، والذي طبعا، لا أعرفه. في حياتي كلّها، لم أُتعب اللغة. استنزفت منها بعض الخيارات المحدودة: "ايه نعم، معه حق، ايه ايه ما بيصح إلاّ الصحيح، زينة العقل، أكيد طبعا..." كنت أريد أن أشتم، أن أعارض وأغضب، هذا كلّه استبدلته بالسكوت والإبتسامة... انا كإنسانٍ عادي ينتابني فزعٌ غير عادي تجاه هذه الأحاسيس.
أنا الواقف في منتصف الطوابير، والجالس في المقعد الخلفي، وأمرّ بجانبك أحيانا وأنظر في عينيك، لا أحمل هاتفي، لا تأتيني مكالمةٌ إلّا نادرًا، لست بحاجة لكوب قهوة كي أصحصح، ولا فرق لديّ بين اللحم والمجدرة، أنتظرُ تحت الشمس سيارة أجرة، أقطفُ وردة عن الطريق، أشمها، أرميها، لا أحدّق في شيء سوى وجوهٍ تستهويني، لا ضريبة عليها، لا بروتوكول، ولا عقوبة.
أنا حيّ بين الأموات، وميّت بين الأحياء، وأشباهي ليسوا أربعين بل أكثر. غيابنا يشكّل أزمة في هذا الوجود، نحن من نكتب و نحرك الأوراق، ثم نحفظها في أرشيفٍ واحد. ستصادفني يومًا ولن نتكلم، تُرى أي من الأوراق نحن؟
الصوت الثاني، الرسالة الثانية:
خلقت في زنزانةٍ حديديةٍ، بها فتحةٌ واحدة أتنفس منها، لهذه الفتحة غطاءٌ كبير، يضعونه بجانبي كنوع من أنواع التهديد، لأن أبقى واقفة، وأتنفس فقط... الآن عرفت ذلك، بعدما متّ، وعرفت بأنّ التهديد ليس بحاجة لأن يتضمن أمرًا ماديًا او ملموسًا، او لأن يكون مدعومًا من جهة معيّنة، بل احتمال أن أفكر بالخروج من هذه الزنزانة بعدما أراها هو ما كان يشكّل تهديدًا. يريدون أن يمنعوا عنك كل الوسائل اللازمة لأن تكون مؤثرًا، و يحكمون عليك بالبقاء متأثرًا. لا تسألني عنهم، ولا عمن يكونون! لنا في ذلك حديثٌ طويل.
كنت أجلس في بعض المقاهي لأراقب روّادها، انحرجُ لأنني لا أعرف أن أطلب شيئًا سوى "قهوة سادة"، وحين يسألني النادل:"اسبريسو او تركية؟" أقول ما يُعجبني لفظه. تارةً أختار قهوة اسبريسو وتارة أخرى قهوة تركية. هكذا عرفت الفرق بينهما، رغم انني وجدت الطعم ذاته: قهوة. كانوا يخبرونني بأنّي شخصٌ طيب، أستطيع أن أغفر للناس بسهولة، وربما لم أكن أدري بأن عليّ ألّا أغفر، أو حتى بأنه ليس بمقدوري الغفران. غفرت للجميع دائمًا، لكنّي اليوم لا أغفر لي.
هل ستحمل ذنبي إلى أن تلتقيني؟
الصوت الثالث، الرسالة الثالثة:
أعاني من ارتخاءٍ في الروابط، والأمر شبيهٌ بالإرتخاء في العضلات. ولكنّه نفسيّ. أنا أفشلُ في أن أكون قريباً من أي أحد، أشعر بأن ذلك لأمرٌ خطير. عليّ أن أمسك دائمًا بسلاسل الجماعة، وأن أعتبر ذلك تضحية عليّ تقدميها، ولكن الدولة لا تبرهن لنا أنها قادرة على تعويض التضحيات التي تطلبها منّا. مع الجماعةِ، انا في أمان، سيصيبني ما سيصيبهم، سيبقى الانضباط كما كان على الدوام و سأبقى ملزمة به، لا سهو، لا كلمات ليست متعلقة بشكل مباشر بروح الجماعة، لا دخول بعد الوقت المحدد، ولا خروج، ولا أي إهمال في السلوك الشخصي، وسأشعر بقدرٍ أكبر من الراحة، لن أتعب رأسي و لا فكري، امّا جسدي فلا بأس، مع ذلك، لم يصبني أي شدّ عضلي. فكلّ هذا يتم من أجل راحتنا.
كنت أريد أن أخرج عن هذا المفهوم، و أن أتعب قليلًا، أن أجرّب التعب للمرة الأولى، الصداع، الأرق، و المجادلات الطويلة. عوضًا عن هذا التخدير الذي أكلني وفقًا لمعاييرَ صارمة ما كنت أعرف مصدرها. لكنّي علمت الآن أني كنت طوال الطريق متعبة، و لم أكن أدري. بالله من قال إن السكوت علامة الرضى؟ كنا نسكت من دون أن نعلم أننا ساكتون، ومن دون أن نعلم أن علينا التكلّم، كي نرفع هذا البساط من فوقنا و نضعه تحتنا! هل ستعرفني من حركة شفتيّ؟
يجب أن يكون عالقًا في ذهن جميع من قرأ هذه الرسائل، التي لم أكشف سوى القليل منها، بأني أتكلّم حصرًا في شؤون تتعلّق بهذه المحفوظات الخاصّة للعالم الخارجي الذي نراه، حيث يتم دفن الأموات لأسبابٍ مرتبطة بالحفاظ على السلامة الذهنية للأحياء. انطلاقًا من ذلك أقول لن يبقى الأموات في الأماكن نفسها من الأرشيف الصوتي الذي كانوا يشغلونه وهم أحياء، وسيتم تجديد أوراقهم تدريجًا للتوزّع على جيل جديد من الأحياء، في سبيل الحفاظ على الرأي العام، الذي يعزز سلطة الدولة، الذي يحكم المجتمع، الذي يقع بيده أمر البلاد، بكل ديمقراطية، بكل حريّة، بالمساواة، والإرادة، وبكل ما لا يمكنك من المرة الأولى تصديق أنه كذب، كذب، كذب!
الصورة: عكس التيار لـ مايلز جونستون
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة