لمَ أكتب؟ بمَ أكتب؟ وبأيّ صوت؟ بصوت النبي الذي أنتظره؟ أم عامل المقهى؟ أم بصوت ذاك الذي أعشقه؟
ما أكسبه في الكتابة هو نفسه ما أحصل عليه من خلال الإنتظار. كانت هوايتي مراقبة حلقات الحياة التي نحيا بها، أشبكها على شكل قلادة، قلادة الوجود التي فرطت حلقاتها بينما كنت وحيدة في غرفتي، فوق سريري، أفكّر بأنني غيمة، أمرُّ فوق الوجود، أراه، ثم أتبخّر.
هناك، في تلك اللحظة، لم يكن بقربي "نبيّ" يلملم حبّات القلادة التي وقعت مني، فبقيت أبحث عن ذاك النبي حتى اللحظة. ولا أعلم لماذا لم يرسل لي الله في تلك اللحظة نبيًا - وأنا كنت في أمسّ الحاجة لذلك - كما أعطى مريم ولدًا. هل كان لمريم حاجة حين رزقت بعيسى؟ أنا لست مريم، لكن عيسى لي. وهم يتقاتلون إذا ما كان قد صلب، أو لم يصلب. ذلك لا يغيّر من حقيقة الأمر شيئَا. كنت في إنتظار نبي لم يصل، فعند من أقدم ورقة الاحتجاج؟ ومن ينتظرني لوصف اللحظات الأولى التي شعرت بها بالإنتماء؟
سبع أبواب فتحها. لم أدخل من أي باب، بل ولجت من النافذة المشرّعة. هل تستطيع أن تشعر بهذا العناء؟ أنغمسُ في هذا العالم الى أن يفقدني، أختبئ خلف أصابعه التي يلوح بها للأحياء ويتمسّك بها الأموات، إلى أن ألقى القبض عليّ ودفعني إلى الأمام بكل قوة. سبقني الجميع وبقيت خلفهم.
أشاهد من أقصى نقطة كيف يُخلق الخيال بالوهم، وكيف يتحول الخيال لحلم، وكيف تحمل الأساطير الأحلام، وكيف يفنى الإنسان في رحلة البحث عن أسطورة، ثم يأتي الكاهن ليقنعه بأنه سيصل إلى أسطورته بالإيمان، بعد أن تُزهق روحه، وتحيا مجددًا بهذا الإيمان نفسه. إلا أنني لا أؤمن بهذا البلد.
لا، لم أتعرض لأي صدمة، لا في طفولتي ولا في صباي، جعلت مني الشاهد بدلاً من أن أكون بطلَ هذه المهزلة. بل أنا شخص عادي تخطّى صدمة الوجود التي أغرقت جميع أبطال المسرحية في رهبة مخيفة جعلتهم يتمسكون بالإجابة المستحيلة، تلك التي لا تعلو فوقها أي قدرة، كي تُلغى كل الاحتمالات الأخرى ويعود كل منّا إلى غرفته، إلى فقاعته.
أشاهدهم بتقنية العرض البطيء slow motion، يختلط عليهم الأمر في حالات التخدير الابستمولوجي، فيَلج أحدهم إلى فقاعة الآخَر. إن مشهد الجاهلية قد تمدّن، فهو لم يتلاشَ، تمدّن فقط! الرجال هم الرجال، والنساء هم النساء، البيوت بدل الخيام، والكاهن بدل الخمرة.
السكر في شرعنا محرّم، لكنه الحالة الوحيدة التي يدرك فيها الواحد منا حقيقته المؤسفة، لا ينتمي إلى أي شيء!
لا غرابة في الأمر، الغريب هو أنه من المحرم إدراك تلك الحقيقة كي لا نقع في الحرام الأكبر! ولا حرام أكبر من جريمة دفن التاجر والسياسي والكاهن في قبر واحد تمتد مساحته على كامل تراب الوطن.
في اللاانتماء حرية، لكن ذلك يختلف عن حرية الانتماء التي تأتي في الخطوة الثانية. الإنسان بطبيعة الحال يبحث عن حبل ليمسك به، لييكبّل به يديه، قدميه، أو حتى لسانه.
يكتب مارتن هيدغر في "الوجود والزمن" (1926) الموجود وصولا الى الوجود الذي يتجلى دائمًا في حدود المرء الخاصة وأسلوب الحياة الذي يحيا ضمن نطاقه.
أعود إلى الحبّات الدائرية التي حملتها على عنقي وفرطتْ - بينما كنت أنتظر نبياً - وانتشرت في أنحاء الغرفة.
في اللحظة الاولى التي خرجتُ بها من الوهم، اجتاحتني موجة من الغضب. غضبتُ منه كثيرًا، لأنه تركني طفلة وحيدة في سريرها تقلّب صفحات الكون، تحاول الوصول إلى شيء ما، تحاول ان تشعر بشيء ما. وحدها. فيغلق الباب على إصبع قدمها الصغيرة في كل مرة. لكنها الآن، وبعد مناورات احتجاجية، أدركت أن الإنسان يطير إن كان عنقه حرًا، ولا أحد يرغب بالطيران، لأن ما من رواية دينية قد أبلغت الإنسان قط أن أحدهم طار والتقى بحورية، أو وجد ليرات ذهب، أو شرب من نبع الخمر الحلال.
أما عندما يكبلونك من عنقك، فستشعر بالإنتماء، تقف في وجه الشمس، تدافع، تهاجم، تحارب... لن ترغب في أن تموت ابدًا. ولترغيبك بذلك، سيربطون موتك بشرط، فتموت من أجل هذا الشرط علّك تنتمي أخيرًا لشيء، وكم من باحث هلك في رحلة البحث عن هذا "الشيء".
لك الحرية في أن تختار، أن تنتمي، أو أن لا تنتمي.
أما الانتماء الحقيقي فلا خيار فيه، ستحتاج لأن تعود طفلًا وحيدًا في سرير صغير، تبحث عن نبي، قد تجده، وقد لا تجده، قد تنتمي إليه، وقد لا تنتمي.
الصورة: Maxfield Parrish - Stars
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة