أستيقظُ كل يوم لأفتح النوافذ تحت جِلدي، فتطير منها حشراتٌ متنوّعة، أمّا الطيور فهي مسجونةٌ في حريّةٍ تصيبُ جلدي بالحساسيّة. أطمئن. لم أتحوّل إلى حشرةٍ عملاقة بعد مثلما أضحى "غريغور سامسا".
أسيرُ على الحياد فتتساقط مساماتي ويهترئ جسدي، عندما أتخذ جهة، تنبتُ لي حشرة، تُسقى من نوافير الماء التي تُغرقني كلما سها أهل الحيّ عن إطفائها.
سأكون ذات يوم ضحية هذا النسيان، فأن تكون حشرة كبيرة، تلك مغامرةٌ صارخة، صارخةٌ تقول: "كل المغامرات انتهت!"
لم أقرر يوماً البدء بمغامرة، لكنني قسرياً، فعلت. ومن دون أن أدرك ذلك. هذا العالم المنقوش على ورق الشجر، الذي رأيته في كل ورقةِ شجرة حتى حفظته عن ظهر قلب، هو ما أجبرني على أن أصيح صيحةً تتساقط بها كل الأوراق، ولا بأس بأن تقع الأشجار أيضاً. لكن لم يسمعني أحد بسبب ضغط المياه. في هذه اللحظة تحديداً، أدركت، لا جدوى من أن أمزّق الهواء بصوتي، حينها كل الآذان ستغدو صمّاء.
كلّ مَن أقابله يكون نافورةَ ماء متنقّلة، يفيضُ من العينين والأذنين والفم! وأحياناً، من وسط الرأس، فتتلوثُ الطرقات بسائلٍ لزج، نلعَقه لتتكوّن لدينا قشرة الدماغ الداخلية، ولا نثني قدمينا، هكذا يغرينا النظام.
أنا نجوت من هذه المهزلة، لأنني لم أفِضْ يوماً... بل كنت أغرق. وكنتيجةٍ لهذا الغرق أمسيت حشرةً عملاقة. فمن منا المسخ، أنا أم كافكا؟
استيقظ غريغور سامسا من أحلامه المزعجة ذات صباح ليجد نفسه في سريره متحولاً إلى حشرة عملاقة، أمّا انا فتحوّلت خلال سيري على الطريق، بينما كنت مستيقظة تماماً. ربما تكون هذه ضريبة الصحو السنويّة، فأنا ككافكا أعيش في مدينةٍ ليس بوسعنا فيها فعل شيء آخر سوى الاستمرار بالمشي والاستمرار بالتيه إلى أن يتلاشى الطريق، وتكون الرؤية الرماديّة رؤية طبيعيّة. الأسود أو الأبيض خللٌ بصريّ في هذا النظام، يعزّزه هذا الخوف المقدّس، الإرث المقدّس، وعدوانيّة الحشرات بعد حياةِ البؤس الفادح.
الطريق كمينٌ يصطادك بشبكةٍ سميكة، ليرميك بعيدًا كي لا تشكّل خطراً. يضحكُ كافكا، صديقي ذو عين الثعلب. فتفكُّ ضحكته شيفرة هذا القدر المحتوم. تحضر صورته أمامي بينما يتساءل: "كيف أصبحت الشخص الذي أنا عليه؟ هل أنا نفسي فعلاً، أم صنع مني الآخرون بالأحرى الشخص الذي أنا هو؟".
من يتخذ جهة أو طريق، من يخرج عن مسار التّراب المقدّس، من يرفض التحوّل إلى نافورة ماء، سيغدو حشرة كبيرة متربعة على قلب المجتمع. لكنك حتمًا حين تتحوّل إلى صرصار، تغدو أكبر من المجتمع. وحينئذٍ، "حتى لو لم يأتِ الخلاص، فإنني أريد مع ذلك أن أكون جديرًا به في كل لحظة."
لقد حاولت أن أشغف بالمياه دون فهمها، لكن الوقت تأخر، وقد فهمت، يائسة أنا من هذا الفهم الذي غيّب عني صوَر كل الأشياء العالقة في حلقي. يائسة من هذه الرؤية التي تجعل عقلي في سبات عميق، لا أُعذّبه بالحركة، أرى مسبقًا كل ما هو مرغوب ومحجوب في آنٍ معاً.
عندما تفيض النوافير، تتحول المدينة إلى بحر... ولا أدري ما هي الحكمة في أن الغارق فيه ينجو! والحشرات تموت.
ربما لأن الطريق غير متاح بعد لاستقبال من لا آذان لهم... أولئك الذين يعجزون عن سماع أصوات تقول بأن عليكم لعق الطرقات والأرصفة وإذاعات البث والراديو، كتراتيل تردَّد في الحانات وعند الفجر.
أنا نسيتُ السباحة التي تعلّمتها من والدي. كان يقول أنه لكي نسبح علينا تحريك اليدين بشكلٍ عرضيٍّ مع الجسمِ، مع إمالةِ الكتف مع اليدِ المُتحرِّكةِ وتحريك القدمين بشكلٍ تبادليّ. قضى حياته كلها يحرك قدميه بشكلٍ تبادليّ، فأصابنا جميعًا بالشلل.
هكذا يسير الآباء في هذه البقعة الصغيرة من العالم، يزرعون في الهواء قيودًا ما إن نستنشقها حتى نغدو أشخاصًا آخرين، لا لون ولا شكل لهم سوى هذا الامتداد الشفّاف لكل ما يحيط بهم من ظلال. ربما لهذا يعلموننا السباحة بأنفسهم، على مبدأ "الاحتياط واجب"، لأننا عندما نسبح نتوقف عن التنفّس.
لا تموت الحشرات غرقًا، بل تموت وهي تمارس حياتها الطبيعية وسط هذا الغرق فيقال إنّه قضاء وقدر بصبغةٍ إلهية خاصّة.
هكذا غامرتُ، وكنت أنتظر هذا الوقت وأتمنّى حصول شُحٍّ في المياه، لكن مجتمعي لم يبخل في ذلك. وهذا ما أماتنا جميعاً، بالإضافةً إلى أنها كانت تمطر كل صباح، مطرًا غزيرًا يبشرهم بالصراط المستقيم، علمًا بأن الملاكَينِ الماكثينِ على كتفَي كل منهم، لا يَبتلّان!
الآن أراقب هذا المطر، وقدرتي على الإختباء منه أصبحت أفضل، فبإستطاعتي المكوث في الزوايا الضيّقة المعتمة. لكن صوتي لكثرة ما ارتفع سابقًا أكلته غيمة، واليوم لا صوت لي. غير أن صوتي لا يزال يتردد في آذان أصحابُها مهدّدون بالتحوّل إلى حشراتٍ كبيرة، هي في الحقيقة آذان أصدقائي. ولشريحةٍ أخرى من المجتمع أقول: "الطريقُ سيُفنى وسنعود."
عرف التاريخ ثورات قامت بها شريحة من المجتمع تصنّفها الأنظمة على أنها "حشراتٌ بريّة". فتنشغل الشرائح الأخرى بتقديم النهايات المعدّة لها سلفًا.
غرفةٌ معتمة، كأسٌ فارغ، وملامح رفضٍ وطرد ألعب معها الغميضة فتغلبني كل مرة.
ولكنْ، ما دام الغيم يسرق الأصوات، فكيف يصمت الغيم؟
هذا المطر الذي يساهم بعملية الإفاضة، سيكون ذات يوم أصواتنا. فالمشكلة لا تكمن في حياتي أو موتي، بل في حريتي بأن أحيا وأن أموت. بأن أكون فردًا أو أن أكون حشرةً كبيرة. أن أتنقّل من دون أن يشعر جسدي بالخوف بينما يتسلق جدران المجتمع بعيدًا عن كل المقاييس التي تفترسه.
الصورة: Shawn Marie Hardy
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة