أمشي في المسافة الفاصلة بيني وبينه، إلهي، كي أعتذر.
تقول جدتي بأنه سيقطع يدي إن تناولت حلوى صديقي اللذيذة، على الرغم من انها، أي جدتي، لا تجيد صناعة الحلوى.
و يقول جدي بأنه يرانا دوماً، لكنه يُغلق باب غرفته في المساء ليشاهد فيلماً "كوميدياً".
في المدرسةِ يقولون لنا: "مَن غَشّنا ليس منا." الّا أننا كنّا نطلبُ مراراً إعادةِ الشّرح.
كل شيء من حولنا ممنوعٌ من اللمسِ كي لا يتسخ. كل شي بقي نظيفاً عدانا. اعتدنا لمس الأشياء برؤوس أصابعنا، كذلك أنفسنا، فغبنا عنها.
كان لنا حقٌّ فسُرق منّا.
هكذا، نلبس التهمة لباساً ضيقاً نتضرّعُ فيه لله كما لو اننا نتضرّعُ للشمس. فنُذنب لتحدي الوقت، و تُسرق منّا الغاية.
حيُّنا يمثّل مشهدًا حيويًا داخل خريطةٍ تشتعل بالرغبة.
رغبةٌ في الرغبةِ، لا أكثر.
والخريطة نحن الذين لا ندرك بأننا أحياء، إلّا عندما نتهددُ بالموتِ. فنتسابقُ وإيّاها وليس من فائزٍ سوى المسطرة التي نقيس الوقتُ بها، والتي أجلسُ مثلها في الاجتماعاتِ العائلية.
ربما ندرك مؤخراً بأن الوقت يُقاس بكم رغبنا في العيش رغبةً حرّة.
خلال سيري في محاولة الوصول للإعتذار، أشاهد الناس يتساقطون على الطرقات، ينتشل بعضهم الآخر، فإن اعجبته "البراند"، إما يرتديه، وإما يسير فوقه. وكل "البراندات" ذات صناعة أجنبية. حتّى العملة تحتسب على سعرِ الصرف الأجنبيّ، فنحن لاجئون في بلادنا.
مرّة أخرى، نسرق منّا الهويّة، و نوزّعها على الوقائع.
يغيب عني الفرد و الوطن و طعم الليمون، من شدة ما ارتدوا هُنا بعضهم بعضًا، إى أن تلاشوا.
لا فرق بين طعم الليمون، و ما أراه في الوجوه.
أعرفها جميعا، كما لو أشرب الليمون يوميًا.
يقول كل مذاق لم اعد اذكره: "سُرقنا."
ابحثُ في أرشيف الذاكرة، دون جدوى. فيبحث فمي في ارشيفه الذي يبتلع الكلمات الى ان تصيبه "نفخة".
حين ننتفخ نطير، حين نطير نصطدم بأنفسنا فنقع.
و نعود لشربِ الليمون مجددًا، وإن سُرق منّا، نبحث عنه و نقولُ: "فخر الصناعة العربية."
أمشي كثيراً إلى ان أصل، اعتذر منه وأسأله إن مَن سرق من سمائك مسافةً فاصلة عليّ ان أمشيها إلى ان أهلك، لكي أعتذر!
يجيبني تثبيت المشهد، فيتحقق ما كنا نخافه جميعاً.
السماء تنخفض ويروي الراديو مشهدنا.
كل الرفاق هنا، يتحولون لأشجارٍ صامتة على أرضِه الشفّافة الخصبة.
لسنا أولاد آدم، نحن شجرة قطفت منها الثمرة.
نحيا حياتنا كاعتذار عن تلك الخطيئة التي تَطَهّرنا منها بالخروج عن آدم، فمتنا.
أولئك الرفاق لم يعتذروا، و لم يهلكوا في السير إليه.
أما نحن، فنتحول لتلك الأرض، ونظراً لخصوبتنا نمتزجُ في الترابِ ونتزاوج أنفسنا عن طريق الخطأ فنندهشُ لأننا للمرة الأولى نرى من نحن، لم نعتاد أن نرانا.
أجدادنا يذوبون داخل الشمس. نلتقطُ الصور الفوتوغرافية على الغروبِ ونبتسم، لكننا ننتظر شروقها مجددًا. تمامًا كما فعلتُ في اجتماعٍ ما، دافعتُ عن رأيٍّ مُعارض بينما كنت انتظر ان يدعم احد ما الرأي الآخر و يعارضني ثم نسكت. تذكرتُ جدي بينما كان يذوب داخل الشمس وأنتظره.
يدفع الإنتظار أثماننا في آخر الشهر لئلا نُطرد ونتهجر.
لكنني اختار ان أكون لاجئًا عندما تُسرق مني المواطنية بفسخِ عقد البيع.
نرفض أن نبيع أنفسنا، فنُشترى في الكنائسِ والجوامعِ ومراكز العملِ ومقاهي المدينة. لكننا نرفض. وننتظر تحديد إجازتنا السنوية لنتصفح سلعًا تحتوينا نسيطرُ بها على اللحظة.
أخبرُ الله بأنني والرفاق لا نملك أنفسنا، فكيف نُسرق؟
ربما لكي نملك شيئًا، لكي نملك كل شيء عدانا.
لئلا نشكل خطرًا إقليميًا فيُغرقون بنا الوطن.
أخبره مجددًا بأنني والرفاق لا نملك الوطن، فكيف يُسرق؟
ربما لكي يملكنا، يملكنا نحن فقط عدا أي شيء آخر.
كي يبقى مقدرًا علينا ان نذوب داخل الشمس كأجدادنا.
حينها، يكون الوطن آمنًا، في سلام، على الرغم من أنينه الذي يهز مهد السماء.
نحن وصمةُ عارٍ لطّخت جبهة التاريخ، وجعلت من الرغبة عاصمةً للوقت. مشكلة، ان تكون النار ابنة الماء. ووحدك في غابةٍ بعيدة، تحاول خلق إحداهما، رغم انك لا تملك شيئاً.
تريد التصدير؟ حسناً، سيطلبون هويتك. هل تملكها؟
إلهي، مجدداً، عليّ ان أمشي إلى ان اُهلك، لكي أعتذر.
و لكن، من سيعتذر لنا؟
الصورة: مقطع من لوحة "جنّة عدن وسقوط الإنسان"، بيتر بول روبنز وجان بروغل الأكبر. 1615
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة