رحلَ الفنان الفلسطيني وإبن القدس مصطفى الكرد (1945-2024)، حنجرة فلسطين الصادحة وأحد مؤسسي مسرح الحكواتي وفرقة البلالين في القدس، بعد سيرة فنية ونضاليّة امتدت لأكثر من خمسة عقود.
قدّم الكرد تجربة فنية ونضالية فريدة لا تعرف المساومة أو التنازل، فعاش فنّه وعبّر من خلاله عن تجارب شعبه وثورته. عام 1967، مباشرة بعد الهزيمة، انخرط الكرد في العمل الفنّي السياسي من خلال مسرح الحكواتي وتأليف الأغنية السياسية التي تستذكر فلسطين ما قبل النكبة وتحشد للمقاومة والحريّة. عام 1976، أعادت تنظيمات يسارية أوروبية إصدار بعض أغاني مصطفى الكرد في إسطوانة حملت إسم "أرض وطني"، مطالبة بإطلاق سراحه، بعد اعتقاله إدارياً داخل فلسطين من قبل الاحتلال الذي حاول جاهداً وضع حدّ لنشاطه التعبوي العمّالي والسياسي والفنّي.
لحّن الكرد وأدّى قصائد كمال ناصر وتوفيق زيّاد وراشد حسين وسميح القاسم وخليل توما. ومزج بين إرثه الصوفي والعربي وحبّه للمسرح والموسيقى ليغنّي لأهل الأرض، للفلاحين، للمنفيين، للعمّال وللفدائيين. صدرت له أعمال منها أسطوانة "فلسطين، حبيبتي" (1977) وشريط "احلم ببكرة" (1986)، إضافة لتأليف الموسيقى التصويرية لوثائقي "تل الزعتر" (1977) للمخرج مصطفى أبو علي.
ننشر قريبًا في "رحلة" سلسلة حوارات أجريناها مع الراحل مصطفى الكرد بين عامي 2022 و2023، تحدّث فيها عن طفولته في القدس، والوعي السياسي، ودور الموسيقى، وأثر النكبة والنكسات وغربته في بيروت وأوروبا ودرب العودة إلى فلسطين.
نتقدم في رحلة من زوجته ورفيقة دربه هيلغا باومغارتن ومن إبنه درويش بأحر التعازي.
لروحه الخلود ولفلسطين الحرية.
"هات السكّة
عندي منجَل
أوعى بيوم عن أرضك ترحل"
في ما يلي بضعة سطور عن أثر مصطفى الكرد في أجيال فلسطين، دوّنها المخرج نزار حسن:
في وداع مصطفى الكرد: كان رفاقي في الحركة الطلابية الوطنية "أبناء البلد" يرددون في فترة الجامعة أغنية "يا رفاقي في كوبا" ورفيقاتها و "أشدّ على أياديكم" ورفيقاتها. ولعلّني لا أذكر أول أغنية رددتُها لمصطفى الكرد، لكنّي أذكر منها ومنه صوته - صوت أفشل في تعريفه على الرغم من أنه ما زال راسخًا في ذاكرتي، فيه قوّة وإصرار وعناد، فيه صوت أولاد الحيّ والشارع، صوت يذكّرني كيف كنّا نرمي حقائبنا بعد العودة من المدرسة ونأكل "لقمة" أو إثنتين ونسرع بعدها لنلتقي في زقاقات قريتنا وحاراتها لنلعب "الفتبول" أو "السكوتر" أو لنصعد إلى الجبل حيث عيون الماء تُشعِرنا وتذكّرنا أن البلد بلدنا. نلعب، نفرح، نوسّخ ثيابنا بالوحل فنضحك ضحكة الأطفال البريئة ونصبح رجالاً، نتيّقّن ذلك في داخلنا، نتحدث كثيراً عن الفدائيين، ثم نعود إلى البيت بملابسنا المتّسخة فتصرخ امهاتنا، لقد تعبنَ من الغسيل اليومي وغلي الماء على الغاز أو البابور بسبب غياب التيار الكهربائي.
كان مصطفى يدفعنا بصوته إلى البقاء "ببلدنا". لم يأخذنا إلى كوبا أو باريس أو برلين الشرقية أو موسكو. بلدنا هي البوصلة. قبل سنة، كان لقائي به الكترونياً عبر زوم عندما أجريت أنا وحرمون حواراً مطوّلاً معه على مراحل... من الناصرة وبيروت. وكان مصطفى لا يزال يتنشق هواء القدس. وأعتقد أن الحوار هو الوحيد عن سيرته الشخصية والفنية بين بيروت والقدس، وهو مشروع بادر حرمون إلى اقتراحه. حين سمعته يتحدث في مكالمتنا الأولى، أعادني مصطفى إلى صوته الأول. خلال اللقاء عرفت أنّي في حضرة السيّد فدائي الفن، ذلك الذي وظّف كل إمكاناته وقدراته وهمّته لأكثر من خمسة عقود من أجل الحرية، من اجل بلدنا وأبنائها. مصطفى الكرد هو سيّد الفن في خدمة القضية، وهو سيّد الفن الوسيلة، سيّد الفن الذي تذوب فيه الذات. كان لي صديقة حميمة من صنفه اسمها ريم بنّا. هو وريم إثنان لا ثالث لهما... حلمي أن أكون ثالثهما.
فوداعًا يا مصطفى .. وشكراً على كل ما قدّمته من أمل وحرية وإصرار، وفنّ يهتف للحرية.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة