پاولو فريري معلّمٌ راديكاليٌّ برازيليُّ وضعَ نظريّاتٍ في التّعليمِ تحوّلت إلى مدارسَ لصونِ حرّيّةِ الإنسانِ وكرامتِه. ربطَ فريري بينَ تعليمِ الفقراءِ والمضطهدينَ والتّحوّلِ الجذريِّ للمجتمعِ، من أجلِ بناءِ عالمٍ فيه يتساوى النّاسُ وتسمو القيمُ والممارساتُ الدّيمقراطيّةُ التّشاركيّةُ الجذريّةُ بالاقتصادِ والسّياسيّة.
كان لأفكارِ فريري الأثرُ الكبيرُ على حركةِ الوعيِ الأسودِ في جنوبِ أفريقيا والحركةِ النّقابيّةِ وبعضِ المنظّماتِ المرتبطةِ بالجبهةِ الدّيمقراطيّةِ المتّحدةِ (UDF)، خلالَ حقبةِ الفصلِ العنصريّ. وعلى الرّغمِ من حظرِ نظامِ الفصلِ العنصريِّ كتابَه التّأسيسيّ "پيداغوجيا المضطهدين"، تمَّ تداولُ نسخٍ من الكتابِ بشكلٍ سرّيّ.
وُلدَ فريري عام 1921 في ريسيفي، وهي مدينةٌ تقعُ في شمالِ شرقِ البرازيل. بعدَ دراستِه الجامعيّةِ، أصبحَ مدرّسًا وبدأ في تطويرِ اهتمامِه بالمقارباتِ الرّاديكاليّةِ للتّعليمِ، بما في ذلكَ مشاريعَ تعليمِ محوِ أميّةٍ للكبار. رأى فريري أنّ للمنظّماتِ المجتمعيّةِ والعمّاليّةِ دورٌ حيويٌّ في تكوينِ العقلِ النّقديِّ المطلوبِ للتّغلّبِ على هيمنةِ الظّلمِ وتبعيّةِ الاضطهاد.
ولذلكَ، كانَ الهدفُ الأساسُ لأعمالِ فريري المبكرةِ دعمُ أصولِ التدريسِ الرّاديكاليِّ من أجلِ تنميةِ التّفكيرِ النّقديِّ لدى الأفراد. أصبحت طريقةُ المشاركةِ الحواريّةِ الّتي طوّرها من الخمسينيّاتِ فصاعدًا بديلًا تحرّريًّا وتقدُّميًّا للبرامجِ المدرسيّةِ المهيمنةِ الّتي ترعاها حكومةُ الولاياتِ المتّحدةِ مثلاً بواسطةِ الوكالةِ الأميركيّةِ للتّنميةِ الدّوليةِ (USAID)، وهي منظّمةٌ تهدفُ إلى استيعابِ الأطفالِ داخلَ منظومةِ التّعليمِ الأميركيِّ المعرفيّةِ، فتُسهمُ في زيادةِ اللّامساواةِ في العالمِ الثّالثِ ثقافيًا وماديًّا.
من المنفى إلى أفريقيا
في 1964، عندما استولى الجيشُ البرازيليُّ على البلادِ بدعمٍ من الولاياتِ المتّحدةِ وفرضِ دكتاتوريّةٍ يمينيّةٍ وحشيّةٍ، كان فريري من بين المعتقلينَ الذين زجّهم النّظامِ الجديدِ في السّجون. وبعدَ سبعينَ يومًا في الاعتقالِ، أطلقَ سراحُه وأجبرَ على مغادرةِ البلادِ، فتنقّلَ بينَ دولٍ لاتينيّةٍ عدّة. وفي تلك الفترةِ، وطّدَ علاقاتَه بحركاتِ التّحرّرِ بأفريقيا، فزارَ زامبيا وتنزانيا وغينيا بيساو وساوتومي وأنغولا وكاپ فيردي. واجتمعَ مع الحركةِ الشّعبيّةِ لتحريرِ أنغولا (MPLA)، وجبهةِ تحريرِ موزمبيقَ (Frelimo)، والحزبُ الأفريقيُّ من أجلِ استقلالِ غينيا والرّأسِ الأخضرِ (PAIGC) وطوّرَ برامجَ محوِ أميّةِ الكبارِ في بعضِ هذه الدّول.
قرأ فريري بإسهابٍ عن الاستعمارِ وآثارِه على الشّعوبِ، بما في ذلك كتاباتِ المثقّفينَ الثّوريينَ الأفارقةِ مثلَ فرانتز فانون وأميلكار كابرال. كانَ فريري أيضًا ينتقدُ بشدّةٍ النّظامَ الرّأسماليَّ وهيمنتَه الّتي تتشابكُ مع العنصريّةِ والتّمييز. وفي 1980، عادَ فريري إلى البرازيلِ، حيثُ أصبحَ ناشطًا في حزبِ العمّالِ (Partido dos Trabalhadores). وعندما سيطرَ الحزبُ على ساو پاولو (إحدى أكبرِ المدنِ في العالمِ) في 1988، تمَّ تعيينُه وزيرًا للتّعليمِ في المدينة. وبقيَ في هذا المنصبِ حتّى 1991 وتوفيَّ في 1997.
پيداغوجيا المضطهدينَ في جنوبِ أفريقيا
خلالَ السّنواتِ الّتي قضاها في المنفى، واصلَ فريري عملَه البحثيَّ في بلدانِ أميركا اللاّتينيّةِ، مثلَ تشيلي، حيثُ ألّفَ كتابَه الأكثرَ أهميّةً، "پيداغوجيا المضطهدين" (1968)، وطوّرَ برامجَ محوِ الأمّيّةِ للبالغين. خلالَ تلكَ السّنةِ، اندلعَت ثوراتُ الشّبابِ في جميعِ أنحاءِ العالم. وفي تلكَ الفترةِ، اكتشفَ فريري أعمالَ فرانتز فانون. و في 1987، ذكرَ أنَّ شابًّا كان في سانتياغو (تشيلي) في مهمّةٍ سياسيّةٍ أعطاهُ كتابَ فانون "معذّبو الأرضِ"، عندما كانَ على مشارفِ الانتهاءِ من "پيداغوجيا المضطهدين". لكنّه بعدَ قراءةِ الكتابَ، اضطُرَّ إلى إعادةِ النّظرِ في مضمونَه وأعادَ كتابتَه، فقد تأثّرَ فريري بشكلٍ كبيرٍ بالإنسانيّةِ الرّاديكاليّةِ لفانون، وتفكيرِه في دورِ المثقّفينَ الجامعيّينَ في النّضالاتِ الشّعبيّةِ، وتحذيراته حولَ كيفيّةِ تحوّلِ نخبةٍ من المظلومينَ إلى مستعمرينَ جدد.
وعلى الرّغم من أنَّ فريري زارَ العديدَ من البلدانِ في أفريقيا، لم يسمح له نظامُ الفصلِ العنصريِّ بزيارةِ جنوبِ أفريقيا. ومع ذلكَ، استعرضَ فريري التّاريخَ الاجتماعيَّ لذلكَ البلدِ في كتبِه ووصفَ كيف جاء مناضلونَ من جنوبِ أفريقيا للقائِه والتّحدثَ عن عملِه في سياقِ ما كانَ يدورُ في وطنِهم. وأدّى هذا التّقاربِ إلى تبنّي العديدِ من المنّظماتِ والحركاتِ المشاركةِ في النّضالِ ضدَّ الفصلِ العنصريِّ أفكارِ فريري وأساليبِه.
رأى فريري في "پيداغوجيا المضطهدين" أنَّ الهدفَ من العملِ الرّاديكاليِّ يتمثّلُ في استعادةِ الإنسانيّةِ المفقودةِ وبالتّالي تحريرِ المظلومِ كما الظّالم؛ فالمظلومُ يُضطهَدُ لأنّه يقاتلُ من أجلِ أن يكونَ إنسانًا، وفي نفسِ الوقتِ يعيدُ إلى الظاّلمينَ إنسانيّتهم الّتي فقدوها من كثرةِ ممارسةِ الظّلم.
وبرغمِ الحظرِ، انتشرَ هذا العملُ في جميعِ أرجاءِ جنوبِ أفريقيا. حتّى الكتبُ التّطبيقيّةُ الّتي نشرها مفكّرونَ أفارقةً لتطويرِ أساليبِ فريري في السّياقِ الأفريقيِّ حُظِرت أيضًا، فوُزّعَت سرًّا. وهنا، يشيرُ الأكاديميِّ ليزلي هادفيلد إلى أنّ كتابَ فريري وصلَ أولًا إلى جنوبِ إفريقيا في أوائلِ السّبعينيّاتِ من خلالِ الحركةِ الجامعيّةِ (UCM)، والّتي بدأت في تطبيقِ مشاريعِ محوِ الأمّيّةِ المستوحاةِ من نهجِ فيريري. وعملت الحركةُ بشكلٍ وثيقٍ مع منظّمةِ طلّابِ جنوبِ أفريقيا (ساسو)، الّتي أسّسها ستيف بيكو في 1968، وكانت ساسو الأولى في سلسلةٍ من المنظّماتِ الّتي شكّلت مع منظّماتٍ أخرى حركةَ الوعيِ الأسودِ (BCM).
تضمّنت هذه الحركةُ منظّماتٍ عماّليّةً مثل BWP الّتي تأثّرت أيضًا بأفكارِ فريري فأطلقَت مشاريعَ تعليمِ العمّالِ، من بينها برنامجُ التّدريبِ الحَضَريَ (UTP) الّذي اتّبعََ منهجيّةَ فريري لتشجيعِ العمّال على التّفكيرِ في تجاربِهم اليوميّةِ، والتّفكيرِ في ما يمكنهم فعلُه بشأنِ وضعِهم الحاليِّ، ثمَّ العملِ على إنهاء نظامِ الأبارتايد. تطوّرَ البرنامجُ خلالَ السّبعينّياتِ فأُنشئت لجانٌ عماّليّةٌ لدعمِ السّودِ مادّيًّا في جامعاتِ في جنوبِ أفريقيا.
خلال إضراباتِ 1973 (انتفاضةِ ديربان)، اعتقلَ النّظامُ عددًا من قياداتِ حركةِ التّحرّر. ولكنَّ نقاباتٍ مهنيّةً عدّةً كانت قد تشكّلت، فبدأ عددٌ من المثقّفينَ المدرّبينَ في الجامعاتِ، ومن بينهم من تأثّرَ بفريري، بالانخراطِ في النّقاباتِ الّتي حقّقت انتشارًا سريعًا. وفي 1979، توحّدَ عددٌ من النّقاباتِ ضمنَ اتّحادِ نقاباتِ عمّالِ جنوبِ أفريقيا (فوساتو)، الّذي كانَ - بروحِ انتفاضةِ ديربان - ملتزمًا بشدّةٍ بالرّقابةِ العمّاليّةِ الدّيمقراطيّةِ في النّقابات. وبحلولِ منتصفِ الثّمانينيّاتِ، حشدَت تلكَ النّقاباتِ الملايينِ من النّاس.
"الپيداغوجيا" مستمرّة
في الثّمانينيّاتِ وعلى الرّغمِ من وجودِ تيّاراتٍ عدّةٍ، تأثّرت بفيريري منذُ تأسيسُها، ضعفت بشكلٍ كبيرٍ بسببِ عسكرةِ السّياسةِ في أواخرِ الثّمانينيّاتِ، ورفعِ الحظرِ عن حزبِ المؤتمرِ الوطنيِّ الأفريقيِّ في 1990. وأدّت عودةُ حزبِ المؤتمرِ الوطنيِّ الأفريقيِّ من المنفى إلى التّسريحِ المتعمّدِ للنّضالاتِ المجتمعيّةِ والإخضاعِ المباشرِ للحركةِ النّقابيّةِ لسلطةِ حزبِ المؤتمرِ الوطنيِّ الأفريقيّ. حينها، لم يكن الوضعُ مختلفًا عمّا وصفُه فرانتز فانون في كتابِ "معذّبو الأرضِ": "اليومَ مهمّةُ الحزبِ هي إيصالُ التّعليماتِ الصّادرةِ من القمّةِ إلى النّاس. لم يعد هناك مبدأ الأخذِ والعطاءِ المثمرِ من الأسفلِ إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفلِ الّذي يخلقُ ويضمنُ الدّيمقراطيّةَ في الحزب. بل على العكسِ من ذلك، فقد جعلَ الحزبُ نفسَه ستارًا بين الجماهيرِ والقادة."
غيرَ أنَّ أفكارَ فريري بقيت تنتشرُ في فترةِ ما بعد الفصلِ العنصريّ. فعلى سبيلِ المثالِ، في السّنواتِ الأولى بعد التّسويةِ السّياسيّةِ، تضمنّت الجامعةِ العمّاليّةِ في ديربان مشروعًا تعليميًّا نقابيًّا عملَ عليه بعضُ المعلّمينَ الذين التزموا بأساليبِ فريري. وكانَ مابوجو مور، الفيلسوفُ في حركةِ الوعيِ الأسودِ، أحدَ هؤلاءِ المعلّمين. وهو يتذكّرُ أنّه تعرّفَ على فريري عندما كانَ طالبًا في جامعةِ تورفلپ (Turfloop) أثناء تشكيلِ المدارسِ الشّتويّةِ الّتي نظمتها حركةُ ساسو، وكانت هرّبت نسخةُ من "پيداغوجيا المضطهدين" مع نسخةِ من "معذّبو الأرضِ" لفانون، لكي يقرأها الطلّابُ خلسة.
واليومَ، لا يزالُ عددٌ من المنظّماتِ ملتزمًا بأساليبِ فريري، مثل مركزِ "أومتاپو" (Umtapo) الّذي تأسّسَ بديربان في 1986 كردِّ فعلٍ على تصاعدِ العنفِ السّياسيِّ داخلَ المجتمعاتِ السّوداء. وثمّةَ منظّماتٌ أخرى تستخدمُ منهجَ فريري، منها برنامجُ CLP الّذي تمتدُّ جذورُه إلى تقاليدِ لاهوتِ التّحرير.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة