ربّما يكون التفكير في العلاقة الملتبسة التي تربط ميدانًا معرفيًا كالفلسفة مع "الناس العاديين" أمرًا يستحق الملاحظة، وذلك لخطورة موقع الفلسفة وما تثيره من أسئلة وإشكالياتٍ تطال معنى الوجود وأبعاده في عصرٍ لم تعد فيه المعرفة مقتصرة على قلّةٍ، أو هكذا يُفترَض؛ هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، للموقع الذي تحتله حشود الناس، وعوامهم في الفضاءات الاجتماعية والسياسية والتاريخية. هذه العلاقة التي غالبًا ما ميّزتها الخصومة والنفور المتبادل، وبالتشكيك العاميّ بجدوى الفلسفة والفلاسفة، وبالهاجس الذي سكن الفلاسفة، ومن خلفهم، عادةً، قوى التسلّط، تجاه العامّة.
هي علاقةٌ نقع على أمثلةٍ منها منذ بواكير الفلسفات الشرقية-اليونانية وصولًا إلى الفلسفة المعاصرة، مرورًا بالفلسفات الوسيطة والحديثة، سواء في الحواضر الأوروبية أو الآسيوية أو غيرها، وهي التي صوّرَت الفلسفة وأرّخت لها بوصفها "ملَكة تفكيرٍ وتأمّلٍ" مخصوصة لنخبة أو لقلّةٍ تمتلك، وحدها، القدرة على التدبّر الفلسفيّ، وعلى تجاوز المُعطى المحسوس للأشياء، والسطح الملموس للواقع، لتبلغ البواطن والأعماق، ولتصعد إلى المتعالي المتجاوز لليوميّ والعاديّ...أو كما يُقال، إلى الميتافيزيقيّ.
أمّا عوام الناس، في وجدان هذه القلّة، فهم كحشدٍ أو كما يُقال "قطيعٍ"، يفتقرون إلى سبلٍ كافية تسمح لهم بالتفكير القويم والتأمّل العميق، وينقصهم عادةً الجدلُ المنطقي، وتعوزهم الرغبة على أشكلة حياتهم ومساءلة مصائرهم ووجودهم؛ وما لهم، والحال هذه، سوى القبول بما يُطرَح عليهم من آراءٍ ومعتقداتٍ يؤمنون بها ويسلّمون بأمرها. وكفى الله شرّهم! وعليه، يجب، كما قال الغزالي مثلاً، "إلجام العوام عن علم الكلام"، وتجنّب إطلاع الناس العاديين على الفلسفة؛ وهذا كان رأي ابن رشد، خصم الغزاليّ، في تمييزه بين الخطاب البرهاني والقول الخطبيّ، فالبرهانيّ مخصّص للقلّة من الفلاسفة "المختارين"، والخطبيّ للعامّة يخاطبهم بقدر عقولهم المحدودة.
نلاحظ كيف لبست هذه النزعة الفلسفية "الباطنية" لباس الكهنوتية أحيانًا كثيرةً، فلم يعد الفيلسوف سوى نسخة أخرى عن كاهنٍ أو شيخ طريقةٍ دينيةٍ أو إمامٍ أو رسولٍ أو نبيّ، له زاويته وفيها يحاور معارفه وإشراقاته وتأمّلاته. واستكملت هذه الكهنوتية فصولها لتصير، اليوم، فلسفة أكاديمية، جامعية، بأساتذتها وألقابهم، وبدروسها العويصة ومناهجها الصارمة المصمّمة على نحوٍ يقصى فيه أكبر عددٍ من الناس العاديين، "متوسطي العلم" أو جاهليه. ألم يبدو "زرادشت" نيتشه، كالكاهن العلّامة أو النبيّ العرّاف النازل من علياء معرفته وحكمته إلى العامّة من الناس، البلهاء والضعفاء، يبشّر بفلسفته للإنسان الأعلى السيّد التي تحتقر من لا يصل إلى رتبته؟
وعليه، كان لا بدّ لهذه الصورة "الارستقراطية" للفلسفة ومعشر الفلاسفة "المتبرجزين" أن تنفّر ذلك الجمع الغفير من الناس، وهؤلاء العوام المنهمكين في وجودهم اليوميّ المتكرّر، والغارقين في همومهم الآنية، والباحثين عن فرصٍ لإشباع متعهم وإرضاء نزواتهم وتلبية رغباتهم جسدًا ونفسًا. فلا وقت لهم لنقاشٍ مجانيّ في أصل الوجود ومبتغى حركته، ولا حاجةً لهم لصبّ جمّ تفكّرهم في تفكيك لغة النصوص الفلسفية التي قد يسمعونها على حين غرّة، ولا تتيح يومياتهم لهم الاهتمام بالبحث المضنيّ في الابستيمولوجيا والجماليات والأخلاقيات والاونطولوجيات وضروب الما-بعديات...إلخ.
هكذا استُبعِدوا عن عرش الفلسفة والتفكير الفلسفيّ، وعندما أرادوا الاقتراب من أروقتها، اصطدموا بفلسفات وفلاسفة تحالف أغلبهم الأعظم مع دوائر السلاطين أو الملوك أو الرؤساء المتوجّسين دائمًا والمرعوبين أبدًا من تمرّدات العوام وثوراتهم وتشكيكهم بمشروعية من يحكمهم. هي نفسها هذه الدوائر السلطانية التي متى شعرت بأنّ تحالفًا ما كان على وشك الولادة بين الفلسفة (والفلاسفة والمثقفين والمبدعين) والعوام، لم تتردّد في شنّ حربٍ على الفلسفة المعنية، وفي تأليب العوام عليها تارةً باسم الدين، وهذا، بتبسيطاته التعليمية وتعاليمه الاخلاقية النهائية، وبوعوده التعويضية، أكثر جاذبيةً من الفلسفة وكافّة الانتاجات المعرفية الأخرى التي قد تدّعي امتلاك حقيقة أو إجاباتٍ كافية، فهو، حقًّا، أقرب إلى "فطرة" هؤلاء الذين يبحثون في موقع وجودهم الفرديّ والجماعيّ في الحياة الدنيا.. وتارةً أخرى، باسم القوانين الطبيعية أو العقل أو الوطن أو الشعور القوميّ أو غير من المخترعات البشرية المقدّسة. وبالنتيجة، كانت هذه "الفتنة" السلطانية، إضافةً إلى شروط اجتماعيةٍ وتاريخيةٍ أخرى، تنجح غالبًا في توسيع الهوّة بين الفلسفة وجمهورٍ لها مفترضٍ، وفي إثارة خوف الفيلسوف من هجمات العوام وتهديداتهم القاتلة، وهي تهديداتٌ حقيقية تشهد أحداثٌ عليها منذ محاكمة سقراط حتّى أيامنا هذه. فمعلوم في عصرنا كيف استطاعت دوائر السلطان الأعلى (الدولة المتحالفة مع رأس المال) "ترويض" أعدائها من العوام، وكذلك من الفلاسفة والمثقفين والمبدعين، والتلاعب بعقولهم بصنوفٍ شتّى من الأدوات والأساليب، ومنها التعليم الأكاديميّ المفرغ من المحتوى التثويريّ حكمًا والتجهيليّ غالبًا، وكيف تمكنّت من سجن الفلسفة والفلاسفة في المأسسة الأكاديميّة المحافظة بطبيعتها، أو كيف استطاعت تحويل ميادين المعرفة والتفكير والإبداع إلى سلعٍ في أسواقها "الحرّة".
هل المطلوب أن تصبح الفلسفة عمومية؟ هل يجب "تأميم" الفلسفة وجعلها شأنًا يوميًا متاحًا أمام الجميع من دون نخبوية أو حصرية؟ وهل يمكن أن يصبح التفلسف، بما هو ممارسةٌ فكريةٌ صعبة المراس وتقتضيّ توسيع دائرة المعرفة وإعمالًا إبداعيًا للفكر وفنون المنطق والتأمّل، هل يمكن أن يصبح "ملَكَة" عمومية؟ نعتقد بأنّ الجواب إيجابيّ ولكن في حدودٍ. من ناحية، وكما في أيّ ميدان معرفيّ وإبداعيّ، كالعلوم والفنون، ينبغي هدم الحاجز، اللّغويّ والمعرفيّ، الذي يفصل الفلسفة عن عامّة الناس، وذلك بتحويلها إلى شأنٌ يوميّ حياتيّ فيه يصبح بإمكان الجميع أن يسائلوا، في مساحاتهم العامّة، ومستعينين بالتراث الفلسفيّ النقديّ، شروطَ حيواتهم اليومية في ما يتعلّق بمصائرهم وغايات وجودهم ومعاني حريتهم وكرامتهم البشرية، وعلاقتهم بمجالهم الحيويّ والكائنات الأخرى، وموقعهم في الكون.. إلخ. وهذا يقتضي تحرير الفلسفة من "مدرسيتها" ومن كونها أداة نخبوية أيديولوجية للدولة وأجهزتها وطبقاتها المهيمنة. ومن ناحية ثانية، نعتقد، بأنّ إسقاط "أرستقراطية" الفلسفة ونخبويتها، وكذلك في ما خصّ العلوم وكافة المعارف، يجعلها تغتني أكثر بـ"معاش" هؤلاء الناس العاديين، نساءً، ورجالاً، وأطفالاً، أفرادًا وجماعات في أسئلتهم الوجودية الملموسة والواضحة وشكوكهم الكثيرة ومنطق بحثهم عن معنى لوجودهم وأساليب مقاوماتهم، وفي ما أنتجوه من حكمة وتفلسفٍ عفويّين عبر العصور، تمامًا كما اغتنت الفلسفات الماركسية والأناركية مثلاً من حركة الطبقة العاملة في العصر الحديث...ولو أنّ آلة الدولة استولت لاحقًا على الفكر الثوريّ وحركة العمّال معًا، أو كما تجذرّت أكثر الفلسفات النسوية والبيئية عندما التحمت مع التجارب اليومية والعادية للنساء والسكّان الأصليين.. إلخ، أو كما كانت حال العديد من الفلسفات ذات المنحى التصوّفي التي اقتربت من عوام الفقراء والضعفاء وابتعدت في "فقهها" عن السائد من الدين والطقوس، وفي خلاصة نتائجها عن الرضوخ لقوّة عليا بشرية. وغالبًا ما كانت هذه الفلسفات، على سبيل المثال لا الحصر، وهي وريثة تراثات فكرية وفلسفية موغلة في القدم، تنطلق من مواقع "مادية" وحيوية، و"شعبية" أو من مواقع تأمّلية خصبة تخاطب الوجدان العامّ وأذهان ومشاعر عموم الناس، بالأخص هؤلاء الذين كانت تسحقهم شروط الحياة وتمتلكهم رغبات بالتحرّر منها.
إذًا، هي حركة مزدوجة تحررية، طالما أنّ تعميم المعرفة والتفكير و"دمقرطتهما"، وبالأخص تعميم التأمّل الفلسفيّ، هو حجر أساس في تحرير طرائق التفكير والممارسات، من العبودية والإخضاع، وطالما أنّ الناس العاديين، العوام، هؤلاء المستبعدين تاريخيًا من عملية إنتاج الفكر والمعرفة والسياسة، قادرون على تخليص التفكير الفلسفيّ من سجونه وانعزاليته وتجريداته الجافّة.
ومع ذلك، ينبغي حماية الفلسفة، وغيرها من ميادين النشاط الانسانيّ، من صنوف الابتذال والتفاهة التي قد تصيبها عندما تصبح "سلعةً جماهيرية" تستجيب لـ "أذواقٍ" عامّةٍ مصطنعة ولمستويات فهمٍ وتأمّلٍ أصبحت مصابة بلوثةِ التسطيح والتسهيل والتلقين من دون نقدٍ تفحصيّ وتأمّلٍ شموليّ، فجعلها عمومية لا يعني تسطيح موضوعاتها وتقديمها على نحوٍ مجتزأ ومختزلٍ ومفرّغ من سياقاته وأنساقه وإلى حدّ إفراغها من آلياتها الفكرية المعقّدة التي تحتاج إلى تمرّسٍ ذهنيّ ومرانٍ منطقيّ وإعمالٍ لأذواقٍ جمالية أصيلة.
الصورة لـ ايغي فالكون
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة