بمناسبةِ العرض الأول للفيلم الصّامت "الدكتور مابوسي المُقامِر" (Dr. Mabuse, der Spieler) عام 1922، من إخراج فريتز لانغ، وزعت شركة الإنتاج في الصّالة كتيّباً ترويجياً يشرح سياق الفيلم على النحو الآتي: "سُحقت البشرية في أعقاب الحرب والثورة، فانتقمت من نفسها لسنوات عبر الغوص في الشّهوات والإستسلام للجريمة". من الملفت تقديم هذه النظرة الشّاملة للبشرية عند الترويج لفيلم حول رجل شرير يتلاعب بالناس ويحتال عليهم. فما المقصود بالغوص في واقع البشرية جمعاء إذا كان الفيلم غير سياسي ومحصوراً بِشِرير واحد فقط؟ وهل تمثل هذه الجملة وسيلة فعّالة للترويج للفيلم وزيادة عدد مشاهديه؟
تُقدِّم النظرية النقدية فكرة طموحةً تقول بإمكانية أن نرى في الأفلام أكثر مما تصوّره الكاميرا. سيغفريد كراكور (كاتب وناقد سينمائي) واحد من أولئك المفكرين النقديين الذين احترفوا الغوص في "نيغاتيف" الأفلام لقراءة الرسائل السيكولوجية المخفيّة في الظلال. طرح كراكور في كتابه الشهير "من كاليغاري إلى هتلر: تاريخ سيكولوجي للفيلم الألماني" الذي صدر عام 1947 فكرة أن الألمان في مرحلة جمهورية فايمار (1919-1933) تخيّلوا من خلال السينما طاغيتهم المستقبلي الذي سيتجسد لاحقاً في شخص يُدعى أدولف هتلر.
لاحظ كراكور أن الأفلام الألمانية، على عكس أفلام باقي الدول في تلك الفترة، تميّزت بكثرة شخصيات القتلة المتسلسلين، والطّغاة، والعُلماء المَجَانين، والشخصيّات التي تُمثِل صورة السّلطة الأبوية. من أهم أفلام تلك الحقبة "خزنة الدكتور كاليغاري" (1920، إخراج روبرت وين)، "الدكتور مابوسي المقامر" (1922، فريتز لانغ)، "نوسفيراتو: سيمفونية رعب" (1922، ف.و. مورنو)، و "م : مدينة تبحث عن قاتل" (1931، فريتز لانغ). وكانت جميعها أفلام تطغى عليها أجواء الرّعب والقتل والتلاعب.
فلماذا هذا الإفتتان الألماني آنذاك بالقتل والعنف والتلاعب والتنويم المغناطيسي؟
هاجس الفوضى
يُمكن تعريف "جمهورية فايمار" (1919-1933) بإختصار بأنها حقبة سياسية من تاريخ ألمانيا، تميّزت بضعف سلطة الدولة في ظل تضخم إقتصادي حاد، ونفوذ ميليشيات سياسية متطرفة، وإستياء عام بسبب توقيع معاهدة فرساي بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. بؤس هذه الفترة مَهّد لِصُعود أدولف هتلر على رأس الحركة النازية في ألمانيا.
اللافت في تلك “الجمهورية” أنها كانت وليدة ما يُعرف بثورة 1918-1919 الألمانية التي أنهت حكم الملكيّة الدستوريّة وأسست جمهورية ديمقراطية برلمانية. لا بُد من الإشارة هنا إلى أن الجناح الإصلاحي في الثورة (بقيادة فريدريش ايبرت) تساهل آنذاك مع الأرستقراطية وتحالف مع اليمين للقضاء على الفصيل الثوري المتمثل بالشيوعيين والأناركيين مثل روزا لوكسمبورغ وكارل لايبكنيخت وغوستاف لانداور. يقول المفكر النقدي والتر بنجامين أن “الفاشية هي وليدة ثورة أُخمِدَت.” وانطلاقاً من هذه الفكرة، فإن عدم جذريّة ثورة 1918-1919 أدّى إلى صعود الفاشية في ألمانيا بعد عقد من الزمن.
على المستوى الثقافي، تميّزت هذه الفترة بإنتاج أفلام رعب أخرجها أهم المخرجين في تاريخ السينما مثل فريتز لانغ، وتروي قصصاً حول طغاة متخيّلين. لا تزال تُعتَبَر أفلام حقبة فايمار، من أهم الأعمال في تاريخ السينما نظراً لقيمتها الثقافية ومدلولاتها السيكولوجية والسوسيولوجية المرتبطة بتلك الفترة المِفصليّة من تاريخ ألمانيا.
في المقابل، لم تجذب مفاهيم كالثّورة والعدالة والتضامن الإجتماعي روّاد السّينما الصّامتة في جمهورية فايمار. إذ شكلت الفوضى القضية الأساس وشغلهم الشاغل. يمكننا القول أن هذا الشعور يتطابق مع ما يشعر به كثيرون في عصرنا هذا، وخاصة ما تبقى من طبقة وسطى. الهوس بالإستقرار وفوبيا "الإنزلاق إلى الفوضى" كما إعتدنا أن نسمع في نشرات الأخبار. هذه الجماهير تبحث عن "تطمينات" و"مهدئات" مهما كان مصدرها. فهي ملّت الأزمات والسجالات السياسية.
الطبيب كاليغاري وشلل المجتمع
شرير فيلم "خزنة الدكتور كاليغاري" (1920، إخراج روبرت وين) هو الطبيب كاليغاري الذي يحترف التنويم المغناطيسي، ويستخدم ضحيته "سيزاري" لتنفيذ جرائم قتل تحت تأثير التنويم المغناطيسي. بمعنى آخر، الطبيب كاليغاري لا يقتل، بل يتحكم بضحيته لتنفيذ الجريمة بالواسطة.
يمتاز الفيلم، كغيره من أفلام تلك الفترة، بالأسلوب البصري التعبيري (Expressionism) الذي يحوّر الواقع البصري ويتلاعب بالمقاييس بعيداً عن المنطق. ويوضح الباحث السينمائي الألماني أنطون كايس أن هذا الأسلوب "سمح لصانعي الأفلام بتجريب التكنولوجيا السينمائية والمؤثرات البصرية لإستكشاف العالم الملتوي للرغبات المكبوتة والمخاوف اللاواعية (...) يضفي الأسلوب البصري في فيلم دكتور كاليغاري شعوراً بالقلق والرعب، مما يعطي المُشاهد إنطباعاً بأنه يعيش كابوساً ما."
الفيلم يسلّط الضوء على السلطة المُطلقة واللاعقلانية، في دلالة على الحكومة الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى، متمثلة بـ"الطبيب كاليغاري"، في حين يرمز "سيزاري" إلى المواطن العادي المُكيَّف، كالجندي، لتنفيذ أوامر القتل. سيزاري هو المواطن الذي لا يعلم ماذا عليه أن يَفعَل من دون تلقي أوامر. بحسب نظرية سيغفريد كراكور، يعكس الفيلم اللاوعي الجماعي للمجتمع الألماني آنذاك، التواق إلى حاكم مُستَبِد، في إشارة إلى الميل العام لدى الألماني حينها إلى طاعة السلطة (أو ما تبقى منها) ورفض أي تمرد عليها. بناءً على هذا التحليل، فإن ما يستحق إعتباره "رُعباً" حقيقياً في هذا الفيلم هو تلك الرغبة اللاواعية لدى المُشاهد بأن يحكمه شخص يُشبه الشرير الذي يَظهَر أمامه على الشاشة.
ولأن السينما هي أداة تواصل جماهيرية (Mass media) تستلزم عدداً كبيراً من الناس لإنتاجها وإستهلاكها، فإنها تسمح بكشف ما يدور في اللاوعي الجماعي لمجتمعٍ ما. وإذا تمَعّنا لبرهة في الأفكار التي نستهلكها بشكل يومي، والأفلام بشكل خاص بصِفتها وسيلة هروب من الواقع (Escapism)، نجد أن معظمنا يبحث في هذه الإنتاجات عمّا هو أبعد من الترفيه. نحن، كالألمان في جمهورية فايمار، نبحث في هذه الأفلام عن مُخَلِّصِ يحمينا من الفوضى التي نعيشها، عن مُحَرّرٍ يحررنا من مسؤولية تقرير مصيرنا ويعيدنا إلى الإستقرار الذي فقدناه.
عام 1930، نشر كراكور كتاب "جماهير الأجور" (Salaried Masses). تُقدّم هذه الدراسة عرضاً نقدياً لحياة طبقة جديدة من "موظفين بلا مأوى روحي"، منفصلين عن أي أعراف أو تقاليد، لجأوا إلى "صناعات الترفيه" الجديدة، كالسينما، ملاذاً من اللامعنى في الحياة والروتين اليومي (Escapism). أشار عدد من الباحثين في ما بعد إلى أن عدداً كبيراً من موظفي الطبقة الوسطى في تلك الفترة تبنّوا النازية بعد ثلاث سنوات. ولسخرية القدر (المعلوم المكبوت) سيأخذ ممثلو تلك الفترة الذين لعبوا دور الأشرار والوحوش المتخيلين في عشرينيات القرن الماضي، سيأخذون أدوار شخصيات مثل الضابط النازي أو اليهودي الشرير في أفلام الأربعينات.
طُغاة وقتلة ومجانين أفلام جمهورية فايمار تحولوا لاحقاً إلى شخصيات حقيقية تعيش بين الألمان، تَعِدُهم بمستقبلٍ عظيمٍ، وتقودهم نحو الهلاك.
المجتمع، عندما يشارف على الإفلاس، يبدأ بتخيّل طاغيته.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة