في منتصف سبعينيات القرن العشرين، إعتلت بشكل كبير وجوهٌ سوداء أفيشات (ملصقات) دور السينما المصرية وبوسترات محلات الكاسيت في وسط البلد في القاهرة. هذه الظاهرة أحدثت طفرة ثورية في الأزياء بين شباب هذا الجيل وبالأخص بين أوساط الشباب النوبي الذين كان وجودهم مركّزًا بين شارعي عابدين وأمبابة. فكانوا يجولون الشوارع بقمصانهم المزركشة ذات الياقات الكبيرة، وبناطيل الـ "شارلستون" الذي تختفي تحت اتساعها عند القدمين أحذية بكعوب عالية، وبيد كل منهم مشط على هيئة قبضة يصففون به شعرهم الأفرو (أي المجعّد الكث، على ما كان يصفه درس الأعراق البشرية بكتب الجغرافيا، آنذاك).
هوليوود والاستغلال الثقافي
انتشرت هذه الموضة أيضاً في دول شمال أفريقيا وفي السودان واليمن. والمحرّك الأساسي لها كان الحقبة الموسيقية-الثقافية التي نشأت في نهاية الستينات في أحياء السود الفقيرة في الولايات المتحدة الأميركية. ولاقت طريقه، عبر تيارات متنوّعة، الى السينما، لتعرف لاحقاً باسم Blaxploitation أو "الاستغلال الأسود". وأفلام الـ blaxploitation متفرّعة من أفلام الاستغلال (Exploitation films) التي انتشرت في السبعينيات بهدف إنتاج أفلام تجذب جمهوراً محدداً من خلال تحريك الحواس لدى المشاهد والتطرّق إلى مواضيع مثيرة كالجريمة والمخدرات والجنس. وغالباً ما كانت هذه الأفلام تفتقر إلى القيمة الفنيّة، إلا أنها، نتيجة غرابتها في بعض الأحيان، استطاعت أن تحصد نجاحاً مالياً أو تحتل مكانة في تاريخ السينما.
أما نوع "الاستغلال الأسود" فيشير إلى الإتاحة المتأخرة للأميركيين ذوي الأصول الأفريقية للعب أدوار رئيسيّة في الأفلام السينمائية كالتمثيل والإخراج، على أن تتمحور القصة حول شخصية أفرو-أميركية. وكان هذا التوجّه المحفّز الأساسي للمخرج الأفرو-أميركي ميلفن فان بيبلز (Melvin Van Peebles) عندما أنجز عام 1971، كتابة وإنتاج وتصوير ووضع موسيقى وإخراج فيلم لاقى إقبالاً غير مسبوق وتفاعلاً مع الجمهور العريض الشارع: Sweet Sweetback's Baadasssss Song. ويروي الفيلم قصة بطل أسود في مواجهة مع الشرطة والمؤسسات الأميركية التي يسيطر عليها البيض. ويتميّز بتقطيع للمَشاهد لم تألفه هوليوود في تلك الحقبة. وهذا بالإضافة إلى الدور الأساسي للموسيقى السوداء، فقد سجّلت فرقة Earth, Wind & Fire الموسيقى التصويرية. ونشير هنا إلى أن الفيلم الذي أنتجه وموّله فان بيبلز من ماله الخاص، إضافة إلى قرض حصل عليه من الممثل بيل كوزبي، مُنع من العرض في بعض الصالات. لكنه، في المقابل وفي مرحلة لاحقة، أصبح من واجب كل عضو في حركة الفهود السود أن يشاهد هذا الفيلم كشكل من أشكال نشر الوعي بين السّود.
ومع أن هذا الفيلم لا يُصنف ضمن خانة الـ blaxploitation، إلى أنه أسس لوجهة نظر في هوليوود رأت في أفلام السود "بيزنس" من شأنها أن تدر أموالاً طائلة على شركة الإنتاج، وهنا، في الاستحواذ على ثقافة السود (Cultural appropriation)، وجد رأس المال ضالته ليلقي لاحقاً على هذا النوع السينمائي تسمية Blaxploitation.
النجاح الذي حققه فيلم فان بيبلز ترافق بشكل بديهي مع إتاحة المزيد من الفرص للموسيقيين ذوي الأصول الأفريقية لتأليف وأداء الموسيقى التصويرية لهذه الأفلام. وأدى ذلك إلى سطوع نجم عدد من المؤلفين الموسيقيين الذين استطاعوا تحقيق نجاح مذهل مثل أيزيك هايز الذي ألف الموسيقى التصويرية لفيلم "شافت" في 1971. اخرجه غوردون باركس الذي اختار للبطولة شاب أسود من الغيتوهات يدعى ريتشارد راوندتري، لم يسبق له أن ظهر على الشاشة. وفي الفيلم، يلعب البطل دور المحقّق جون شافت الذي يكشف الجرائم التي تحصل في حي هارلم الأسود ويفضح القوى البيضاء التي تعمل مع عناصر سوداء محلية لنشر السلاح والمخدرات في الحي النيويوركي. كلفة إنتاج فيلم "شافت" وصلت إلى مليون دولار، ولكنه استطاع سريعاً أن يحقق إيرادات بلغت 12 مليون دولار. وهذا الرقم يظهر النجاح الساحق وغير المسبوق الذي حققه الفيلم مقارنة بأفلام تلك الحقبة. ولم تتأخر الشركة المنتجة في اتخاذ قرار بإنتاج جزء ثانٍ للفيلم في العام التالي بعنوان Shaft Big Score.
تأرجح بين الترفيه و"القضية"
كرّت سُبحة الأفلام السوداء مع Black Caesar و Slaughter's Big Rip-Off اللذين برز فيهما الفنان جايمس براون بعد أن اشترك في تسجيل الموسيقى التصويرية للفيلمين. وفي مطلع 1972، عرضت صالات السينما أفلامًا استطاعت أن تستقطب جمهوراً عريضاً، من بينها فيلم The Bus is Coming الذي يتعامل بشكل مباشرة مع العنصرية وضمن سياق حرب فيتنام. ففي الفيلم، يعود البطل الأسود إلى أميركا بعد مشاركته في تلك الحرب ليجد أن الشرطة قتلت شقيقه، فيقرر الانتقام من "الرجل الأبيض".
وفي 1973، شهدت سينما "الاستغلال الأسود" دخول أفلام الرعب إلى مشهد الانتاج فتحوّل "دراكولا" إلى "بلاكولا" و"فرانكنشتاين" إلى "بلاكنشتاين". وفي سياق هذا التحوّل التدريجي إلى الترفيه والخيال، ومع زيادة الايرادات التي حققتها هذه الأفلام، ابتعدت أفلام السود عن واقع الأفرو-أميركيين وحياتهم اليومية وقضاياهم والعنصرية التي يعانونها. كما شهد ذلك العام دخول المرأة السوداء إلى المشهد الرئيسي من خلال لعب دور البطولة بدءاً من فيلم "كوفي" (القهوة السوداء) الذي تؤدي فيه "بام غرير" دور البطولة لتتحوّل إلى أيقونة في عالم السينما السوداء. وهنا نعود مجدداً إلى أحياء السود، فتعلن بطلة الفيلم، وهي الممرضة "كوفي"، الحرب على مروّجي المخدرات في الغيتو الذين تسببوا بإدمان شقيقتها الصغيرة على المخدرات.
أنتجت سينما "الاستغلال الأسود" أكثر من 40 فيلماً في السنوات التالية. وعادت في محطات عديدة، كما في فيلم "الأخوة" (Brothers) الذي أنتِج في 1977، إلى الموضوع الأساسي الذي أطلق هذا النوع السينمائي، أي العنصرية. والفيلم مقتبس عن أحداث حقيقية و"أبطال سود حقيقيين" مثل أنجيلا ديفيس وجورج جاكسون، وكل الذين ناضلوا من أجل تحرير السود في أميركا.
لكن في النهاية، فرض التيار التجاري نفسه على هذه الانتاجات التي لم تعد تقدّم سوى أفلام هزيلة. إلّا أن هذه التجربة الثقافية السوداء بين شوارع هارلم وتلال هوليوود كشفت 3 حقائق بالغة الأهمية: الحقيقة الأولى هي أن هذا التيار انطلق في البداية كنقد للاتجاه الرأسمالي المتمثّل بعالم هوليوود، والذي تجاهل المجتمع الأفرو-أميركي لفترة طويلة، وأشركه في مناسبات محدودة في سياق تنميطي وعنصري. والحقيقة الثانية هي أن تلك الموجة العارمة من الأفلام كانت في الأساس تعبيراً عن موقف السينمائيين من الحقبة الماضية، أي الستينيّات، والتي اشتهرت بحركة الحقوق المدنية وسعي الأفرو-أميركيين للحصول على حقوق اجتماعية وقانونية متساوية مع البيض. أما الحقيقة الثالثة فهي أن هذا النوع من الفن، نظراً لقدرته على الانتشار الواسع (Mass culture)، ساهم بنسب متفاوتة بتعريف العالم على الثقافة والنمط الاجتماعي والتطلعات والحقوق الذي يسعى إلى اكتسابها الافرو-أميركيون في الولايات المتحدة.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة